الروائية اللبنانية مايا الحاج للكومبس: روايتي عن الذات الإنسانية الممزقة بين هويتين
الكومبس – ثقافة: بالرغم من مرور أكثر من عامين على صدور رواية “بوركيني – اعترافات محجبة” للروائية اللبنانية مايا الحاج، إلا أن ردود الفعل لم تتوقف من حولها، وماتزال تحظى بتغطيات نقدية مهمة في هذا السياق. من المؤكد أن الحاج اقتربت بحرفة عالية من عوالم امرأة رسمت مسارها وتفاصيلها الحميمة فنانة دأبت على تعرية الجسد الانساني في لوحاتها ورسوماتها، في وقت اختارت أن تسد منافذ هذا العري على جسدها وتتحجب.
لن يتوقف السجال من حول هذه الشخصية المدهشة التي اختارتها بطلة لروايتها الأولى حتى أنها تقوم تلقائيا بكشف تلك الهشاشة التي يخفيها العري والغطاء في آن، كما أنها تترك علامات واشارات يمكن من خلالها استقراء هوية مرحلة بأكملها، مازلنا نعيش على وقعها وبصخب لافت تحول في أمكنة كاملة الى رهاب كوني. هنا حوار خاص بالكومبس مع الروائية اللبنانية مايا الحاج حول الرواية:
*هذا النحت في اللغة هل كان يؤسس لوظيفة السرد في الرواية حتى طلع علينا عنوانها “بوركيني”؟
**تحكي الرواية قصة فتاة متخبطة في صراعٍ بين قرارٍ اتخذته بوضع الحجاب في مجتمعها الصغير المنفتح، وبين رغبة في أن تُحرّر جسدها، كما فكرها، لعلّها تُنافس الأخريات بجمالهن وجرأتهن بالكشف عن مفاتنهنّ. ومن خلال هذا الصراع النفسي تتحوّل مسألة الحجاب “العادية” في مجتمعنا العربي إلى قضية وجودية تولّد في ذات البطلة أسئلة صعبة ومعقدة عن الإيمان والجمال والفن والجسد والحب والجنس والغيرة… لم يكن إيجاد عنوان يختزل حالة التأرجح التي تعيشها البطلة أمراً يسيراً، ولكن ما إن لمعت كلمة “بوركيني” في رأسي، وهي المنحوتة من كلمتي برقع وبيكيني حتى اعتمدتها. وجدتها الأنسب لوصف عالم الرواية، بل العالم الذي نعيشه اليوم، المتخبط بين انفتاحه الثقافي والتكنولوجي وتطوره العلمي والعملي، وبين الردّة الدينية والإنغلاق الطائفي والثقافي من ناحية أخرى.
*هل يمكننا افتراض أن بطلتك في جانب منها شيء شخصي منك؟
**حين يقول فلوبير عن مدام بوفاري أنها هو، على رغم أنّ ملامحها ومواصفاتها لا توحي بذلك، فإنّه يُريد في مكانٍ ما التأكيد أنّ البطل هو انعكاس كاتبه، مهما اختلف عنه أو ابتعد. وأنا لا أنكر شُبهة التقارب بيني وبين بطلة بوركيني في نقاط عدة، أهمها المتناقضات التي تُشكّل كيان الشخصية، مثل الإيمان والشك، الحجاب والتحرّر، الخوف والثقافة… لكنني في المقابل لا أقول إنّ بطلتي هي أنا، فهي أكثر درامية وتعقيداً وجنوناً وغرابةً مني ومن أي امرأة أخرى تعيش حياة هادئة متوازنة. وإلاّ لما استحقت أن تكون بطلة روائية، هي التي كانت ضمن شخصيات أخرى في رواية أخرى بدأت بكتابتها، غير أنني وجدتها تستفزني وتلحّ عليّ كي تكون البطلة الوحيدة في العمل. هكذا عدّلت فكرة الرواية وجعلتُ قضية هذه الفتاة هي الإشكالية الأساسية للرواية.
*هل الرسومات التي تقدمها البطلة عنوان لتمرد داخلي تعيشه وراء الحجاب ؟
**ربما، كنتُ أرى في رسم البطلة للأجساد الأنثوية الجميلة تعويضاً عن جسدها. جعلتها هي المحجبة الأقدر- بين زميلاتها وزملائها في معهد الفنون الجميلة- على رسم العري، لأنّ الجسد أضحى
لغزاً” في حياتها بعد حجبه. غياب الجسد (رمزياً) أعطاه حضوراً أقوى في حياتها. صارت ترسمه شوقاً له مرّة، ولإعادة اكتشافه مرّات. لقد أبدعت في رسم الجسد كما يُبدع المسجون في الكتابة عن الحرية.
*يبدو من خلال (أنا) البطلة أن دفة الأحداث تكمن للدقة في يدها مايدفعنا للقول إننا أمام مونولوغ سردي طويل. هل يبدو الأمر كذلك؟
**البطلة هي الساردة والشخصية الرئيسة، إن لم نقل الوحيدة في النص. تُمسك السرد لتكون الصوت الوحيد في النص. الآخرون كلّهم أطياف. هي التي توزّع الأدوار كأنها مايسترو يُحرّك الآلات ويُنظّمّها. جمال الغريمة نراه في عينيّ البطلة، ومراوغة الخطيب نتابعه عبر إحساسها، نتعرّف إلى بقية الشخصيات من خلالها هي، فلا يدري القارئ إن كانت هذه البطلة “المفصومة” تُلصق بهم هذه الصفات والتهم لكونها ترى الأشياء مبالغة دائماً، أم أنهم هم فعلا كذلك. لم يكن ممكناً أمام هذه البطلة أن اختار تقنية أخرى غير “الصوت الواحد”. مونولوغها الطويل ليس إلاّ انتقاماً من كلّ الروايات التي نمطت صورة المرأة المحجبة، الصامتة الساكنة القانعة. جاءت بطلة “بوركيني” لتكسر التقليد بجنونها وصرعها ونزقها وثرثرتها. هذه “الأنا” إنما لتثأر من كلّ من حاول أن ينتزع فرديتها وخصوصيتها ويدفنها تحت ضمير الغائب “هنّ”، والمقصود به كلّ المحجبات.
*تخلق هذه الازدواجية في ( البيكيني – البرقع ) مسألة في غاية الخطورة.. تضعنا وجها لوجه أمام مسألة الهوية والانشطارات النفسية والاجتماعية التي تعيشها. قد لايكونا محفزين على التثبت من هذه الهوية لأنهما غريبين عن منطقتنا في نهاية الأمر؟
**ألا تعتقد أنّ جيلنا منفصم الثقافة والهوية؟ الروايات الراهنة مازالت تستعرض حروباً أهلية عشناها وانشطارات نفسية أصابتنا جرّاء أزمات كثيرة توالت علينا. لكنّ الجيل الحالي لم يجد من يكتب عنه بعد. ربما لأنّ هويته لم تتضّح بعد أو لأنّ المسألة تحتاج الى مزيد من الوقت والحكة كي تتبدّى لنا بوضوح. لكنني أزعم أنّ الشباب العربي اليوم تائه بين ، تيارين، هويتين، أو ربما منظومتين يُمكن اختصارهما بكلمتي “برقع” و”بيكيني”، بكل ما تحملهما من معانٍ وأفكار… إنّه شباب مُغرّر به، تارةً من ثقافة “العولمة” التي تضخ مفاهيم جديدة وغريبة لا تُشبه آصالة المجتمع العربي، وطوراً من أصولية دينية جعلته أسير ثقافة داعش وأخواتها.
*هل سلوك البطلة هو تمرد في الاتجاه المعاكس؟
**تماماً. البطلة شخصية مختلفة في سيكولوجيتها ولهذا كان لا بدّ أن تكون اختياراتها أيضاً مختلفة وتسير في اتجاهات معاكسة.
*أنت تضعين يدك على تيمة مهمة وآنية .. ألم تخشي عليها من التحول بعد أن تنتهي الضجة من حواليها؟
**الضجة التي يُثيرها موضوع الحجاب في أوروبا والعالم هو أمر راهن وآني، لكنّ الصراع النفسي بين خيارين متناقضين يظلّ قضية إنسانية أزلية وتيمة روائية دائمة. صحيح أنّ “بوركيني” تقوم في خطوطها العريضة على مسألة الحجاب والعري لكنها في الواقع رواية الذات المنشطرة والإنسان الممزق بين رغبتين أو هويتين، في أيّ مكان أو زمان. بل أعتقد أنّ الرواية، على رغم الضجة التي أحدثتها حين صدورها، سوف تكتسب قيمتها في الأيام المقبلة.
*لماذا كان يتوجب على بطلتك أن تستدعي حبيبة خطيبها في كل مرة تريد أن تؤكد لنفسها أنوثتها، هل هو الايهام السلبي المتعلق بوظيفة السرد وحيثياته نفسها؟
**ببساطة لأنّ حضور الحبيبة المبهر والمغري شكّل الحدث التخريبي في حياة البطلة. أنوثتها الطاغية استدعت سؤالها عن أنوثتها المختفية تحت طبقاتٍ من الأقمشة. جسدها المكشوف بجرأة جعلها تُعيد البحث عن جسدها المحتجب. اللقاء بتلك المرأة جعلها تلتقي بنفسها. ثم أخذتها غريمة تستدعيها في كلّ مرة تريد لصراعها الداخلي أن يتأجّج أكثر فأكثر. لا أدري إن كانت بطلتي مازوشية فعلا، لكنني أعرف أنها كانت تتلذّذ بإيذاء نفسها وإيلامها.
*تقول إنها رسمت بطلات لوحاتها شبه عاريات، ولكن على عفة ونقاء. كيف يمكن تفسير ذلك، وهل يلخص هذا الصراع ثنائية ( البرقع – البيكيني ) ؟
**لا، صراع البرقع والبيكيني في مكان آخر أشرنا اليه سابقاً، لكنّ الازدواجية في رؤية الأشياء هو جزء من شخصية البطلة، ويندرج حتماً تحت فكرة التناقضات التي تملأ البطلة والرواية. لكنّ نظرتها البريئة الى الأجساد العارية لم تأتِ من عبث. هي رسامة وتقول في مكان ما إنها تُقدّس الجسد ولا تراه “جنسياً” بحتاً في عريه. أحياناً قد يصير الجسد العاري معادلاً للطفولة النقية حين يولد الإنسان مُجرّدا من الملابس ومن الخطايا أيضاً. والبطن الدائري قد يغدو مرادفاً للأمومة، وللحياة بتكرّر مواليدها.
حاورها: فجر يعقوب