توقيع النسخة العربية من رواية “لغز الخاتم” في ستوكهولم
الكومبس – ثقافة: الماشية تموت .. الأقرباء يموتون .. وكذلك، أنت نفسك تموت .. شيءٌ واحدٌ أعرف أنه لا يموت أبداً .. هو حكم الموت على الإنسان .. من هذه الحكمة في فلسفة الأشياء ومن المعطى في كلمات (هافامال)، هناك شيء ما يلح عليك بشدة، ويدعوك لمواصلة القراءة في رواية (لغز الخاتم “RINGENS GÅTA”) للمؤرخة والروائية السويدية (إليزابيث نيميرت “ELLSABET NEMERT”)، هذه الرواية التي صدرت عام (2014) وعادت بالزمان إلى ثمانية قرون خلت، حيث أحداثها وأمكنتها وشخوصها، قام بترجمتها هذا العام إلى اللغة العربية الكاتب (كامل صباح السبتي)، وتم توقيع النسخة العربية منها مساء الأربعاء (28 / 6 / 2017)، بحضور طيف واسع من الأدباء والكتاب والفنانين، ومن المهتمين بالشأن الثقافي من العراقيين والسويديين، في أمسية أدبية دعت إليها الجمعية المندائية في ستوكهولم، واستضافت فيها المؤلفة والمترجم، حيث قدم للأمسية الأستاذ (منذر نعمان عوفي).
عبق التأريخ في لغز الخاتم
تدور أحداث رواية (لغز الخاتم) في فترة مهمة من تأريخ الدولة السويدية في القرن الثاني عشر، أي في فترة ما يطلق عليها بالقرون الوسطى، حيث تمت في تلك الفترة عملية توحيد وإخضاع كافة المقاطعات السويدية تحت سلطة مركزية قوية، وكان ذلك بفضل القائد العسكري المحنك والسياسي البارع الدوق (بيرغر)، الذي ينتمي إلى إحدى أقوى وأقدم العشائر السويدية، وهي عشيرة (السفير كير)، والتي كما نلاحظ من التسمية أن كلمة (سفاريا “Sverige”) باللغة السويدية تعني السويد، وقد اتخذت الدولة تسميتها لاحقاً (سفاريا “Sverige”)، وشعارها (ثلاثة أسود) من اسم وشعار هذه العشيرة.
كما يحسب لهذا الرجل بأنه أول من فكر بإنشاء كيان عسكري في أرخبيل بحيرة (مالارين)، كي يستطيع الدفاع عن المدن الواقعة على ضفاف هذه البحيرة، والتي كانت فريسة سهلة لسفن القراصنة القادمة من مناطق شرق البلطيق، أو ما تعرف حالياً بدول بحر البلطيق وهي: (استونيا، ليتوانيا، ولاتفيا)، وقد توسع هذا الكيان العسكري الصغير وكبر مع الوقت عاماً بعد آخر إلى أن أصبح على ما هو عليه اليوم، والذي يعرفه العالم أجمع باسم (ستوكهولم)، ويعود الفضل أيضاً إلى هذا السياسي الكبير، بأنه أول من أوجد فكرة الضرائب وسن القوانين التي تنظمها، ويقال بأن السويد لا تزال تتبع نفس القواعد الرئيسية في عملية الجباية الضريبية حتى اليوم.
أشخاص بين الخيال والواقع
إن الدوق (بيرغر) هو أول من ألغي بشكل رسمي نظام العبودية، وهو بذلك قد سبق الكثير من دول العالم بقرون عدة، وهو أيضاً أول من سمح للمرأة بأن يكون لها الحق بالوراثة (في أوروبا على أقل تقدير)، حيث كانت القوانين السائدة آنذاك تحرم على المرأة هذا الحق، كما أنشأ الدوق (بيرغر) جيشاً قوياً استطاع بواسطته الانتصار على قوى ودول عديدة، كانت قد اعتادت على غزو الأراضي السويدية كما تشاء ومتى تشاء مثل: (ألمانيا، الدانمرك، وروسيا)، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل أن الدوق (بيرغر) شرع بتوسيع رقعة مملكته، فأصبحت تدعى (الإمبراطورية السويدية)، بعد أن احتل أراض شاسعة وغزا بلدان عديدة مثل: (فنلندا، روسيا، ألمانيا، والدانمرك)، واخضع كافة الأراضي النرويجية لسلطته.
كان هذا زمن الدوق (بيرغر) وزمن ولديه الملكين القويين (فالديمار وهنريك) من بعده، وهذا ما سجله التأريخ وتناقلته الأجيال وأطلق عليه (العصر الذهبي للإمبراطورية السويدية)، حيث تقدم التعليم وتطور الجامعات وخصوصاً جامعتي (أبسالا ولوند) وازدهرت الحركة الثقافية والفنية، وغيرها من النشاطات والفعاليات الاقتصادية والسياسية من خلال الاستغلال المدروس لمناجم الحديد، وكذلك عمليات التجارة بالأخشاب السويدية الفاخرة، حيث وصلت تجارة هذه الإمبراطورية إلى أماكن بعيدة من المعمورة، كما لا يمكن للمرء أن يتجاهل دور هذا الإمبراطور بالقضاء على الإقطاع وطبقة النبلاء التي كانت تنخر بجسد البلاد.
المترجم كامل صباح السبتي
ولد في بغداد عاصمة الحضارة العربية، وأكمل دراسته الأولية في محلة الدورة جنوب بغداد، ثم أكمل دراسته في إعدادية المنصور ببغداد، حصل على شهادة البكالوريوس في الآداب من الجامعة المستنصرية، فعمل أميناً لمكتبة تلفزيون بغداد لأكثر من (15) سنة متواصلة، ثم درس التصميم الطباعي في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد وحصل على ليسانس في الفنون، اضطرته الظروف القاسية للانتقال إلى خارج الوطن، فوصل إلى السويد أواخر العام (2002)، والفنان السبتي يمارس الرسم بالألوان الزيتية، وكان له في السويد معرضين شخصيين، ويتأهب لإقامة معرضه الثالث.
لم تكن ترجمة الرواية من اللغة السويدية إلى اللغة العربية عملاً هيناً أبداً، فاللغة السويدية لغة معقدة التراكيب وتختلف كثيراً عن اللغات الأخرى، إضافة إلى أنها قليلة المفردات قياساً بالغة العربية، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فأن من يريد أن يفهم ويستوعب اللغة السويدية، عليه أن يتكلم كثيراً وأن يستمع أكثر، وهذا لا يتوفر في الكثير من الأحيان، كما أنه ليس من السهولة بمكان، اقناع الأدباء السويديين بترجمة أعمالهم إلى العربية، فهم بشكل عام لا يعرفون الكثير عن الثقافة العربية، ولديهم الكثير من الشكوك حول ما إذا كان من المهم نقل أعمالهم إلى العربية، ولم يكن الأمر سهلاً في إيجاد دار للنشر بإمكانها القيام بإصدار مثل هذا العمل، خصوصاً وهو العمل الأول الذي اضطلع به الكاتب (كمال السبتي)، في ترجمة الأعمال الأدبية السويدية، يضاف إلى كل ما تقدم الظروف الاقتصادية والاجتماعية والأسرية، التي يرى المترجم نفسه مطالباً بتوفيرها ومتابعتها.
“إن التواصل الحضاري ضرورة ملحة من أجل النهوض والاستمرار بالبناء .. العرب بناة حضارة عريقة وفاعلة في البناء الحضاري البشري .. لم تكن الأمة العربية هي الأمة الوحيدة التي عانت من التعثر والنكوص .. كل الحضارات عانت من الانزواء لبعض الوقت .. العودة لحمل مشعل الحضارة من جديد هو مسؤولية مثقفي هذه الأمة .. ومثلما تطورت أمتنا العربية قديماً عبر إبداع الرجال الأفذاذ، الذين نقلوا وترجموا مختلف أنواع المعارف البشرية، أيام دار الحكمة وما قبلها وما بعدها، فإننا مطالبون اليوم، وكل حسب مقدرته وإمكاناته بنقل كل ما يتاح لنا نقله وترجمته من معارف كيفما تكون وأينما تكون .. نقلاً أميناً وصادقاً، لكي نبني مجتمعاً مثقفاً متعلماً، قادراً على المساهمة ببناء صرح الحضارة الشامخ”.
الروائية إليزابيث نيميرت
بدأت المؤرخة مشوارها بالكتابة من خلال إصدارها لأكثر من ثلاثين كتاب مدرسي، كتب متخصصة بالتأريخ والجغرافيا والأديان، ثم تفرغت لكتابة رواياتها المستمدة أحداثها من تأريخ بلادها السويد، فكتبت أكثر من عشر روايات، وقد فازت روايتها “زمن الذئاب” بجائزة كتاب العام لسنة (2016)، ولديها راوية تحمل عنوان (جزيرة الرياح) مستوحاة فكرتها وأحداثها من التراث العراقية القديم، ومن أهم الأسماء في الرواية هو (سرجون الأكدي)، كما ترجمت رواياتها للكثير من اللغات العالمية منها: (الانجليزية، الاسبانية والفرنسية)، وترجمة رواية لغز الخاتم هي بوابة دخولها إلى عالم الأدب العربي.
لقد استطاعت الروائية (إليزابيث نيميرت) بحنكة درامية وبخيال خصب من بناء رواية يتزاوج فيها الخيال مع الواقع، فتعطينا عملاً يسلب الألباب ويمسك بتلابيب القلب منذ اللحظة الأولى وحتى أخر حرف فيها، والرواية تزخر بالمشاعر الإنسانية التي يتفاعل معها القارئ بكل أحاسيسه ومشاعره، وذلك من خلال الكثير من المواقف الإنسانية الرائعة، التي يتعرض لها العديد من شخوص الرواية، وخصوصاً قصة الحب الرومانسية التي تجمع بين (هيلينا)، الشخصية الرئيسية في الرواية، وبين حبيبها (جيكوب)، والذي استطاع الموت وبشكل خارج عن المألوف من إنقاذ حبهما العفيف.
إنها حقاً رواية لا يمل من متابعة قراءتها، بل وحتى إعادة قراءتها لمرات عديدة، إنها إيقونة دائمة في مكتبة كل من يعرف قيمة الأدب الرفيع.
محمد المنصور
تصوير: لؤي حزام