هيكل كما عرفته” في حوار مع الدكتور خليل عبد العزيز”
الكومبس – ثقافة: محمد حسنين هيكل: رجل الصحافة والسياسة والثقافة، رئيس تحرير جريدة الأهرام المصرية، نال من الشهرة ما لم ينله غيره من الصحفيين المصريين والعرب على حد سواء، في القرن العشرين وبدايات القرن الحالي، وهو من الصحفيين المقربين من صناع القرار في مصر وبعض البلدان العربية، الأمر الذي أتاح له فرص المشاركة في صياغة السياسة العربية لعقود عديدة، أثار جدلاً واسعاً ولغطاً كثيراً في الأوساط الثقافية والسياسية العربية والعالمية، حول شخصيته البرغماتية في النجاعة والفعالية على مستوى الممارسة العملية، والمهنية الصحفية في التحرير والتحليل والإدارة، والغموض في مواقفه السياسية التي شرقت وغربت واستقرت عند جذورها الوطنية، في قربه من القيادة المصرية ابتداء من: (الملك فارق، مروراً بالرؤساء: محمد نجيب، جمال عبد الناصر، أنور السادات، حسني مبارك، محمد مرسي، عدلي منصور، وانتهاء بالرئيس عبد الفتاح السيسي)، وعلاقاته الوطيدة بالعديد من الحكام والملوك والرؤساء العرب وغيرهم مثل: (ملك الأردن عبد الله الأول، الرئيس الجزائري أحمد بن بله، وشاه إيران محمد رضا بهلوي)، وجهده المميز في توثيق التاريخ العربي المعاصر، خصوصاً تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي في كتبه ومقالاته وأحاديثه المسجلة.
هذا كل ما نعرفه جميعاً أو أغلب المهتمين منا عن الراحل (محمد حسنين هيكل)، ومعرفتنا به تأتي عن بعد من خلال متابعة عموده الأسبوعي (بصراحة) في جريدة الأهرام، وقراءة بعض كتبه التي قاربت الـ (40) كتاباً، والتي ترجمت بعضها لأكثر من (25) لغة منها: (خريف الغضب، عودة آية الله، أوهام القوة والنصر، مجموعة حرب الثلاثين سنة، والمفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل)، ومن الاستماع إلى أحاديثه المتلفزة من بعض القنوات الفضائية، لكن هناك الكثير من القصص التي لا نعرفها عن هيكل، وقد تبدو تفاصيل صغيرة، لكنها مهمة لمعرفة جوانب غير مضاءة من شخصية هيكل؟ بعض هذه القصص يرويها لنا الدكتور خليل عبد العزيز، الذي تعرف على هيكل عن قرب وعايشه لفترة ليست بالقصيرة، عندما اختار (قانون تنظيم الصحافة المصرية عام 1960)، موضوعاً بحثياً لأطروحة الدكتوراه، التي كان يعدها إلى كلية الصحافة في جامعة موسكو، وبدأت هذه القصص منذ اليوم الثاني لوصوله إلى القاهرة قادماً من موسكو، حين ذهب طالب الدكتوراه (خليل عبد العزيز) مع (لطفي الخولي) رئيس تحرير جريدة الطليعة، إلى مكتب رئيس تحرير صحيفة الأهرام ومؤسسة الأهرام (محمد حسنين هيكل)، وكانت هي المرة الأولى التي يلتقي بها هيكل شخصياً، بعد أن كان يتابع نشاطاته ومقالاته المثيرة.
الدكتور خليل عبد العزيز: كان هيكل ودوداً ومبتسماً، وقال أنه بالضبط يريد أن يعرف موضوع أطروحتي، وبعد ما بينت له بأنني سأقوم بدراسة واقع الصحافة المصرية منذ قانون تنظيم الصحافة، وهو في الواقع كان تأميم الصحافة، قال هيكل: “لماذا تم اختيارك لهذا الموضوع؟ ولماذا في كلية الصحافة بجامعة موسكو بالذات”؟ قلت له أنني أدرس في هذه الكلية، وأنني لم أقرأ عن أية دراسة، أو تحليل من الصحفيين والباحثين المصريين، وهم فطاحل في الكفاءات والعلوم والتحليلات العلمية لحد الآن، فابتسم هيكل وقال: “حسب قناعاتك لماذا لم يقم أحد في مصر بتناول هذه القضية”؟ فأجبته، بأنه يجب دراسة أسباب إصدار هذا القانون، وأن القيادة المصرية تهدف إلى السيطرة على الصحافة، أي تأميمها، وربما سيكون السجن مصير كل من يتطرق بالتحليل لهذا القانون، وإصدار الأحكام بحقه، ابتسم هيكل ثانية وقال: “عندي اقترح! أن تقوم بإعداد رسالتك في كلية الإعلام بجامعة القاهرة، ومؤسسة وصحيفة الأهرام تتحمل كل المصاريف المطلوبة فترة إعداد رسالتك، وعلى شرط أن يكون للأهرام الحق التام في ملكية الرسالة من حيث طبعها أو عدمه وكذلك التصرف بها”، وعندما رفضت ذلك، قال لي بأنه سيقدم كل الدعم في مراحل إجراء البحث، وأنه سيصدر أوامر للمسؤولين في الأهرام، “بتقديم الأرشيف عندنا والإجابة على كل تساؤلاتك”.
بدأت لقاءات طالب الدكتوراه خليل عبد العزيز مع المسؤولين في الأهرام، وكان أولها مع مدير التحرير (علي حمدي الجمال)، وتطورت تلك اللقاءات لتشمل (بطرس غالي)، رئيس تحرير مجلة السياسة الدولية الصادرة عن الأهرام، ومدير تحرير مجلة الطليعة (ميشيل كامل)، ومع الصحفي (رفعت السعيد) وغيرهم، وكانوا جميعاً يشيدون بحرص هيكل الشديد على التواجد في الأهرام يومياً، ولساعات أخرى في المساء أيضاً، ويطلع على كافة المواد المعدة للنشر، ويعطي موافقته أو عدمها، وكان يتعامل برحابة صدر وطيبة مع العاملين والصحفيين في الأهرام، وقد جعل من مؤسسة الأهرام صرحاً صحفياً كبيراً، من حيث امتلاكها لبناية كبيرة توفرت فيها أحدث أجهزة الطباعة والأجهزة الفنية المكملة، وعمل هيكل على تجميع كافة الاتجاهات السياسية والمهنية من خلال تعاقده مع أبرز الشخصيات المصرية، وقد تعرف عبد العزيز على البعض منهم مثل: (نجيب محفوظ، توفيق الحكيم، والكاتبة عائشة عبد الرحمن “بنت الشاطئ”)، بجانب العشرات من الكتاب والسياسيين وغيرهم، وكان هيكل يهدف إلى وضع مصر بكتابها وفنانيها وصحفييها في مؤسسته وقد نجح في ذلك، وكان من أهداف هيكل الاتصال بالملوك والرؤساء وقادة الدول في جميع أنحاء العالم، مستغلاً علاقته الشخصية مع الرئيس جمال عبد الناصر، وهذا ما لفت انتباه طالب الصحافة خليل عبد العزيز.
الدكتور عبد العزيز: كان هيكل دائماً يقوم بضم تصوراته، بل وأفكاره في مقالاته وريبورتاجاته مع غالبية الرؤساء والمسؤولين الذين يقابلهم، وأحياناً كثيرة كان ما ينشره لا يتوافق أو يتعارض مع ما يصرح به أو الذين يجري حواره معهم، فعلى سبيل المثال وخلال الحقبة السوفيتية، ظهرت بعض الآراء والأفكار لدى بعض الأحزاب الشيوعية الأوربية، تتعارض مع أفكار وتوجهات، قيادة الحزب الشيوعي السوفيتي، وقد قابل هيكل زعيم الحزب الشيوعي الإيطالي (تولياتي)، باعتباره أحد دعاة (الشيوعية الأوربية وقائداً لأكبر حزب شيوعي في أوربا)، ونشر هيكل في مقاله الأسبوعي نص حديثه مع تولياتي حسبما قال، وعندما اطلع تولياتي على ذلك، دهش كثيراً وقال بأنه لم يدلي مطلقاً بشيء مما نشره هيكل، وأصدر تكذيباً أرسله للأهرام طالباً نشره، فما كان من هيكل إلا وأن نشر التكذيب وعلق عليه بالقول: “هذا ما يقوله تولياتي وأنا قلت في الأسبوع الماضي ما جرى بيننا من حديث”، وفي أحد الأيام تلقيت من هيكل دعوة شخصية، لحضور ندوة للفيلسوف الفرنسي (روجيه غارودي)، التي حضرها العشرات من أبرز القادة والشخصيات المصريين، وقد أشار لي هيكل بالجلوس إلى مائدة معينة، ومن ثم انضم إلي مستشار السفارة السوفيتية بالقاهرة ومسؤول آخر، بعد انتهاء المحاضرة، رافق هيكل ضيفه غارودي لتعريفه على الحاضرين، وعندما وصل إلينا قال “إنهم سوفيت”، عندها قلت له إنني عراقي، فقال مبتسماً: “معليش”.
في أول لقاء لي مع هيكل في القاهرة قلت له، لا يمكن الكتابة عن الصحافة المصرية بدون التعرض إلى دور هيكل، ابتسم قائلاً: “هذا صحيح، ولكن أزاي حتكتب عن هيكل؟ .. هذا هو السؤال”، ولم أستطع إقناعه بإجراء حديث معه خلال وجودي في مصر، وبعد الانتهاء من إعداد رسالتي وعودتي إلى موسكو، وبعد فترة قصيرة أقيم أول معرض زراعي صناعي مصري في موسكو، حضره الرئيس جمال عبد الناصر، وقبيل الافتتاح كنت أتحدث مع وزير الاقتصاد المصري (عزيز صدقي)، ووزير الخارجية (محمود رياض)، ومع وزير التجارة الخارجية السوفيتية، في هذه الأثناء انضم إلينا هيكل وقلت له، إننا لم نتحدث في القاهرة عن أوضاع الصحافة المصرية من وجهة نظرك، والآن نحن في موسكو وعلينا إجراء لقاء للحديث في ذلك، فوافق هيكل وقال: “نلتقي غداً .. وتزورني في دار الضيافة الساعة التاسعة صباحاً”، في اليوم التالي ذهبت للقائه وأخبرني المسؤولون السوفيت، وكذلك أحد القياديين المصريين (علي صبري)، بأنه قد تقرر سفر هيكل اليوم فجأة في الساعة السادسة صباحاً إلى القاهرة، في نهاية الأسبوع ظهرت في الأهرام وفي عمود (بصراحة)، مقالة لهيكل تحت عنوان (بين الدفاع والهجوم)، بدأت كالتالي: “في موسكو التقيت به، شاباً عراقياً محكوم عليه بالإعدام في العراق، وهو يقوم بالدراسة في جامعة موسكو .. كنا نسير على هضاب لينين، وتمر أمامنا فتيات موسكو وهن يتناولن الآيس كريم”، وعلى امتداد عمود في الصفحة الأولى، وصفحة كاملة أخرى في الأهرام يسترسل هيكل في الحديث: “يقول لي هذا الشاب العراقي كذا .. وأجبته كذا”.
كان المقال هو فضح وإفشاء أسرار مؤتمر القمة العربي الذي عقد في طرابلس في ليبيا، حيث طالب الرئيس العراقي (أحمد حسن البكر) وقتها، بنقل قوات مصرية إلى الضفة الغربية لمواجهة إسرائيل، ورفض الرئيس (جمال عبد الناصر) قائلاً: “كيف يمكن ذلك وتبقى الجبهة المصرية مفتوحة أمام العدو الإسرائيلي”، وقد أثار هذا المقال غضب وسخط القادة العراقيين، فأوعزت الخارجية العراقية إلى سفيرها في موسكو (شاذل طاقة)، بالبحث عن هذا الشاب العراقي الذي تحدث إلى هيكل، ودفع أي مبلغ من المال له، لقاء نشر وتكذيب كل ما جاء في ذاك الحديث المزعوم، وإن هذا التكذيب سينشر في الصحف الموالية للعراق في بيروت والبلدان العربية الأخرى، وهكذا فقد استغل هيكل الدكتور خليل عبد العزيز كونه من العراق، ليفضح ويكشف أسرار ما جرى في مؤتمر القمة العربي، فقام باختلاق حديث مزعوم معه.
الدكتور خليل عبد العزيز: دهشت لذلك لأنني كنت أنا المقصود، وبعد لقائي مع السفير العراقي ورفضي لطلبه بنشر التكذيب، كوني أعادي النظام الإرهابي الدموي، الذي يفرضه حزب البعث على بلادنا، ولأن ذلك سيصب في مصلحة النظام العراقي فقط، ذهبت إلى السفير المصري الدكتور (مراد غالب)، وقدمت له احتجاجي واستيائي، فوعدني بعرض الأمر على الرئيس جمال عبد الناصر، في اليوم التالي اتصل بي الدكتور مراد غالب وقال: “إن الرئيس جمال عبد الناصر يؤيدك في موقفك وقرارك في عدم تكذيب الخبر، وردك الطلب العراقي بذلك” وقال غالب: “إنها عادة هيكل” وذكر بأنه في أحد المرات، وبعد أن كان القادة السوفيت يرفضون إجراء مقابلات مع هيكل، كان في صالة للراحة خلال المفاوضات السوفيتية المصرية، بقيادة الزعيمين: (ليونيد برجنيف وجمال عبد الناصر)، وأنه تكلم مع (برجنيف) قائلاً له، بأن هيكل له علاقات ود وقريب جداً من عبد الناصر، “أخذني برجنيف من يدي وذهبنا إلى هيكل، وسأله: هل أنت مسرور من نتائج الزيارة؟ فأجاب هيكل: (نعم)، بعد عودته للقاهرة نشر هيكل مقالاً قال فيه: إن برجنيف سعى للقائي وطلب مني آرائي فيما جرى خلال المفاوضات”، وأود أن أشير هنا إلى أن هيكل، كان النافذة الأساسية التي يطل منها عبد الناصر على الغرب، وأن معظم قادة ومسؤولي الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا، كانوا يسعون للقاء هيكل قبل الوصول إلى عبد الناصر، كما وأن هيكل لم يكن، وليست لديه رغبة في التعاون مع الاتحاد السوفيتي والبلدان الاشتراكية، إلا بالقدر الذي يخدم مصر.
لم يكن الحصول على شهادة الدكتوراه ونيل اللقب، كل ما حققه الدكتور خليل عبد العزيز في دراسته للصحافة المصرية، بل كان الانجاز الأكبر والأثر الأهم، هو ما أحدثه كتابه: (الصحافة اليومية المصرية “1960 / 1971”)، وتضمن فصلاً خاصاً عن صحيفة الأهرام ورئيس تحريرها (محمد حسنين هيكل)، من عام “1957 / 1974″، الذي طبع في موسكو بمعهد الاستشراق / أكاديمية العلوم السوفيتية، والكتاب باللغة الروسية، وقد أحدث هذا الكتاب ضجة في الأوساط العلمية والسياسية في الاتحاد السوفيتي، تلك الأوساط التي كانت ترى في المسيرة السياسية المصرية، بأنها تنتهج الخط الاشتراكي العلمي، وقد فند رأيها هذا، كتاب الدكتور خليل عبد العزيز، الذي أثبت أن المسيرة السياسية في مصر هي: مسيرة وطنية، تتجاوب مع مصالح الشعب المصري.
محمد المنصور