في عام 1940، وجدت فنلندا نفسها مضطرة لتقديم تنازلات مؤلمة للاتحاد السوفيتي، حيث تخلت عن أجزاء من أراضيها مقابل الحفاظ على استقلالها. كان ذلك جزءًا من سياسة واقعية فرضها ميزان القوى في ذلك الوقت، حيث لم يكن لدى فنلندا خيار آخر سوى تقديم أقاليم حدودية كبيرة من أراضيها، لتجنب احتلالا سوفيتياً شاملاً.
وضع ستالين وقتها شروطه على فنلندا، التي كانت قبل الثورة البلشفية تابعة للتاج الروسي، وتنازل عنها لينين، واليوم يضع بوتين شروطه على أوكرانيا التي تنازل عنها وعن 14 جمهورية سوفيتية يلتسن، أي أن هناك سيناريو مشبها تواجهه أوكرانيا، ولكن في سياق مختلف، بعد أن غير ترامب أولويات الولايات المتحدة بشكل جذري، مما قد يجبر كييف على تقديم تنازلات قسرية لموسكو.

إرضاء روسيا على حساب الأوروبيين لمواجهة الصين

لطالما اعتبر ترامب أن التهديد الأساسي للولايات المتحدة ليس روسيا، بل الصين. وخلال فترته الرئاسية، أظهر عداءً واضحًا تجاه بكين، من خلال الحروب التجارية وفرض العقوبات ومحاولات تقويض نفوذها الاقتصادي والعسكري. ومع اقتراب انتخابات 2024، يبدو أن هذه الرؤية لم تتغير، بل أصبحت أكثر وضوحًا: الصين هي العدو الأول، وروسيا يمكن أن تكون شريكًا في مواجهتها.

هذا التوجه يفسر تحركات ترامب الأخيرة، حيث اقترح إعادة روسيا إلى مجموعة السبع، ورفض دعم انضمام أوكرانيا إلى الناتو، وحتى الإشارة إلى إمكانية الاعتراف بالمكاسب الإقليمية التي حققتها موسكو. من وجهة نظر ترامب، فإن استمالة روسيا وعزلها عن الصين يمكن أن يكون استراتيجية ذكية على المدى الطويل، حتى لو كان ذلك على حساب حلفاء واشنطن التقليديين في أوروبا.

أوكرانيا على طريق فنلندا؟

في ظل هذه التحولات، قد تجد أوكرانيا نفسها أمام واقع مشابه لما واجهته فنلندا عام 1940. الولايات المتحدة، التي كانت أكبر داعم لكييف، قد تتراجع عن موقفها المتشدد ضد روسيا، مما يضعف موقف أوكرانيا في أي مفاوضات مستقبلية. وعلى الرغم من عدم انهيار المقاومة الأوكرانية، حتى الآن، فإن ميزان القوى قد يفرض حلاً وسطًا يقتضي تقديم تنازلات إقليمية، تمامًا كما فعلت فنلندا للحفاظ على استقلالها.

أوروبا: الطرف المهمل؟

في هذه المعادلة، قد تكون أوروبا الطرف الأكثر تضرراً. فبينما تسعى القارة العجوز إلى دعم أوكرانيا والحد من التهديد الروسي، تجد نفسها مهمشة في الاستراتيجية الأمريكية الجديدة. ترامب لم يُخفِ ازدراءه للمؤسسات الأوروبية، ووصف الناتو بأنه عبء على الولايات المتحدة. وإذا ما عاد إلى البيت الأبيض، فإن تجاهل أوروبا في القرارات الجيوسياسية الكبرى قد يصبح القاعدة وليس الاستثناء.

بالنسبة لروسيا، فإن هذا التحول الأمريكي يمثل فرصة، لكنه ليس بلا مخاطر. صحيح أن رفع العقوبات واستئناف العلاقات الاقتصادية مع الغرب قد يكون مفيدًا لاقتصادها المتعثر، لكن الاعتماد على صفقة مع ترامب قد يكون غير مستقر، خصوصًا إذا ما تغيرت الإدارة الأمريكية مجددًا في المستقبل. كما أن فك الارتباط مع الصين ليس بهذه السهولة، إذ تعتمد موسكو بشكل متزايد على الاستثمارات الصينية والواردات التكنولوجية من بكين.

إذا ما استمرت التوجهات الحالية، فقد تجد أوكرانيا نفسها أمام خيار صعب: القبول بتسوية غير عادلة، أو الاستمرار في القتال دون دعم دولي كافٍ. كما أن تجاهل أوروبا قد يؤدي إلى إعادة تشكيل المشهد الجيوسياسي العالمي، حيث تصبح الولايات المتحدة أكثر تركيزًا على الصين، بينما تزداد أوروبا ضعفًا أمام التهديدات الخارجية.

لكن السؤال الأهم يبقى: هل سيتعلم العالم من دروس الماضي، أم أن “سلام فنلندا” سيصبح النموذج الذي يُفرض على الدول الأصغر كلما تغيرت أولويات القوى الكبرى؟ وهل سيتعلم العالم أن حق القوة التي تستخدمه روسيا الآن هو تمام حق القوة التي تستخدمه إسرائيل ضد قوة الحق وهذا ما قد يحول العالم إلى غابة؟ وهل ستتعلم أوروبا الاعتماد على نفسها أكثر، والخروج من العباءة الأمريكية، خاصة بتكوين سياسات خارجية مستقلة ويكون لها تأثير على مناطق قريبة منها خاصة في الشرق الأوسط؟

محمود آغا