في ضربة قاسية لطموحات السويد الرائدة في التحول الأخضر، أعلن مصنع “نورثفولت”، أحد أكبر مشاريع بطاريات السيارات الكهربائية في أوروبا، إفلاسه مؤخراً. لكن وراء انهيار هذا الصرح الصناعي قصة أعقد من مجرد سوء إدارة، أو مجرد خسارة 8 مليارات يورو وتسريح آلاف الموظفين، وما يترتب على ذلك من تبعات اجتماعية واقتصادية، بل إنها قصة احتكار صيني متعمد لسلاسل توريد المواد الخام اللازمة في هذه الصناعة الحيوية، قد يكون إشهار إفلاس هذا المصنع، بمثابة إشهار رسالة بوجه السويد وأوروبا: “لا تتحدّوا التنين”.
هل كان القائمون على مشروع نورثفولت ساذجين لدرجة أنهم لم يحسبوا تأثير هيمنة الصين على سلاسل التوريد، وهل الأرقام كانت بالنسبة لهم كاذبة؟ تقول الحقائق إن الصين تُنتج 60 بالمئة من بطاريات الليثيوم العالمية، وتسيطر على 80 بالمئة من عمليات تكريرها، وفقاً لتقرير وكالة الطاقة الدولية. كما تتحكم بـ 95 بالمئة من إنتاج مادة الغرافيت، وهي عنصر أساسي في صناعة البطاريات الكهربائية. هذه السيطرة لم تأتِ صدفة، بل هي جزء من خطة “الحزام والطريق” لتحويل الصين إلى القطب العالمي في التكنولوجيا النظيفة. عندما قررت أوروبا خفض انبعاثاتها عبر السيارات الكهربائية، وجدت نفسها رهينة لسياسات بكين في توجيه الصادرات ورفع الأسعار.
نورثفولت.. مشروع واعد أُجهض في مهده
كان مشروع “نورثفولت”، المدعوم من الاتحاد الأوروبي، والذي رُصدت له عشرات المليارات من اليوروهات، يهدف إلى تقليل الاعتماد على الصين من خلال إنتاج بطاريات محلية، بمعدل إنتاج 16 جيجاوات/ساعة سنوياً، 44 ميجاوات/ساعة يومياً، أي ما يكفي لصناعة 730 سيارة كهربائية في اليوم (بافتراض أن كل بطارية سعة 60 كيلوواط/ساعة) .
لكن المصنع واجه أزمات متراكمة، أبرزها القيود الصينية على صادرات الغرافيت، التي تسببت في نقص حاد بالمواد الأساسية، إضافةً إلى ارتفاع تكاليف الشحن بفعل سياسات الشركات الصينية، ما زاد الضغوط المالية على نورثفولت. في المقابل، استفادت الشركات الصينية المنافسة من دعم حكومي مكثف، ما مكنها من طرح منتجاتها بأسعار تنافسية لا تستطيع الشركات الأوروبية مجاراتها.
والسؤال هنا: هل يؤدي العقاب الصيني إلى أن تدفع أوروبا ثمن مواقفها؟
إفلاس نورثفولت لا يمكن فصله عن التصعيد المتزايد بين الصين والاتحاد الأوروبي، حيث تزامن مع تحقيقات أوروبية حول الدعم الصيني لشركات السيارات الكهربائية، وقيود مشددة على صادرات التكنولوجيا المتقدمة إلى بكين، إضافة إلى موقف السويد الداعم لاستقلالية تايوان، الذي أثار استياء الصين. في هذا السياق، تبرز ملامح العقاب الاقتصادي، إذ تستخدم بكين، التي تهيمن على 90 بالمئة من إنتاج المعادن النادرة عالمياً، مواردها الاستراتيجية كأداة جيوسياسية لمعاقبة الدول التي تتحدى سياساتها.
اليوم، تواجه أوروبا معضلة وجودية:
- إما الاستمرار في التبعية للصين، مع خطر ابتزازها سياسياً.
- أو البحث عن بدائل مكلفة وغير مُجدية حتى الآن، مثل استخراج الليثيوم من مناجم البرتغال أو التشيلي، أو الاعتماد على تقنيات إعادة التدوير التي لا تزال في مهدها.
التجربة الأوروبية مع نورثفولت تذكّرنا بتحذير الخبير الاقتصادي جون مينارد كينز عندما قال “الموارد ليست مجرد مُعطى طبيعياً، بل هي أداة سياسية بيد من يتحكم بها”.
إذا كانت أوروبا جادةً في تحولها الأخضر، فعليها أولًا أن تتحرر من وهم أن التنين الصيني شريكٌ بريء… فالصراع على موارد المستقبل قد بدأ، ومن يخسر المعركة اليوم سيدفع الثمن لعقود. وهذا ينطبق على مدى استقلال القرار السياسي الأوروبي، الذي أصبح مهدداً من الغرب الأمريكي ومن الشرق الصيني.
محمود آغا