“نعم الأرض مسطحة وكل هذا العالم متواطئ في محاولة خداعنا لنعتقد بأنها كرة”. ليس أساس الفكرة عربياً لكنها تلقى رواجاً بين عرب كثر باتوا يرفضون كل شيء من الغرب حتى لو كان علماً.
أن يصدق المرء أوهاماً وينكر الواقع الذي أصبح مشاهداً أمامه، له أسباب معقدة تستحق الدراسة.
النقاشات الحادة حول كروية الأرض انتقلت من وسائل التواصل إلى وسائل الإعلام وأصبحت جزءاً من الثنائيات الكلاسيكية، مسطحة أم كروية؟ انتصار أم هزيمة؟ خير أم شر؟
هذه الأيام، الثنائية الأكثر إثارة للحساسية: انتصار أم هزيمة؟ في لبنان حيث هدأ صوت الصواريخ، وفي غزة حيث ما زالت إسرائيل مستمرة في جرائمها.
منطق المدافعين عن “الانتصار” يستند إلى أن “العدو لم يحقق أهدافه” رغم “الخسائر الهائلة” في الأرواح و”الدمار الكبير” الذي تخلفه الحرب، والتداعيات التي لا يعلم أحد بعد بمآلاتها.
يغيب عن هذا المنطق مناقشة الأهداف التي حققها هجوم 7 أكتوبر أو “معركة الإسناد” إزاء التكلفة العالية جداً التي دفعها الشعب الفلسطيني وباتت تهدد وجوده على مساحة صغيرة مثل غزة، وهي بالتأكيد ليست مجرد “خسائر تكتيكية” يمكن عقد مقارنة بينها وبين خسائر إسرائيل.
المنطق الذي ساد بعد حرب حزيران 1967 بأن إسرائيل فشلت في تحقيق أهدافها رغم “النكسة”، يحاول التعبير عن نفسه الآن مجدداً بأشكال أخرى.
لا تهم التسمية: هزيمة أم انتصار، لكن هذا الشكل من مواجهة إسرائيل فشل في حماية هذا الشعب أو الدفاع عن قضيته، ووصل إلى حائط مسدود، تماماً كما وصلت مفاوضات السلام إلى الحائط نفسه مع محاولة إسرائيل الدائمة تقويض السلام، ومع وجود أطراف رفضت هذا الخيار منذ البداية.
فشِل خيار حماس الذي اعتمد على وعد غيبي تسميه “وعد الآخرة” بالاستناد إلى حسابات تقول إن نهاية إسرائيل قد اقتربت، لكن الشعب الفلسطيني الموجود تحت الاحتلال وفي الشتات لم يفشل وسيكون عليه أن يبتدع كما فعل دائماً أشكالاً جديدة لتحصيل حقوقه في العودة إلى أرضه.
النقاش يجب أن يتركز الآن ربما على سؤال ما العمل؟ وكيف يواجه شعب بإمكانات محدودة دولة تخرق كل القوانين الدولية بدعم لا محدود من القوة الأكبر في العالم.
حققت دماء أهل غزة ما لم تحققه الصواريخ والقذائف، أعادت طرح قضية الفلسطينيين في وجه العالم. صورة إسرائيل أصبحت أكثر سواداً. نتنياهو صار مطلوباً دولياً. في ذلك ما يمكن البناء عليه إن بدأ الفلسطينيون نضالاً سياسياً وحقوقياً نشطاً حول العالم. إنها فرصة تتكرر لم يستفد الفلسطينيون والمناصرون لقضيتهم منها كثيراً بعد الانتفاضة الثانية واجتياح الضفة الغربية، حين ساد جو عالمي مشابه.
كثيرة هي القوى التي يمكن التعاون معها الآن لإبقاء قضية الفلسطينيين حية وتؤرق ضمير العالم، ولملاحقة قادة إسرائيليين بتهم ارتكاب جرائم حرب.
في السويد مثلاً انحازت الحكومة اليمينية انحيازاً تاماً لإسرائيل، مع تأكيد تمسكها بحل الدولتين، لكن السويد ليست حكومة فقط. الندوة التي عقدت في البرلمان الأربعاء بمناسبة مرور 10 سنوات على اعتراف السويد بفلسطين تظهر شدة الاختلاف في مقاربة القضية الأهم في الشرق الأوسط بين أحزاب السويد وقواها.
التعاون مع القوى الأقرب لقضية الفلسطينيين لا يعني التطابق الكامل معها في المواقف، فما لا يُدرك كله لا يُترك جله. وإذا كنا نريد من الآخرين التعاطف مع قضيتنا فعلينا أيضاً أن نفهم أن مواقفهم ليست نسخة عن مواقفنا، وأن التعاون إنما يستفيد من تقاطع المواقف والمصالح.
الوضع الكارثي الذي وصلنا إليه يتطلب ربما البحث بجدية عن مخارج مختلفة بدل تجريب الحلول المجربة نفسها، وبدل الخوض في صراعات على قاعدة: نصر أم هزيمة؟ وطنية أم خيانة؟ وإطلاق النار في الهواء وكأن شيئاً لم يكن.
أحياناً الاعتراف بالفشل فضيلة تدفع الشعوب إلى مراجعة كل شيء والسير إلى الأمام. هكذا فعلت اليابان وألمانيا.
مهند أبو زيتون