تنتحر الإنسانية في بحر غزة. يغدو القتل والتدمير حدثاً عادياً تألف الناس أخباره. يمارس العالم حياته بشكل طبيعي بينما يموت أطفال وأمهات جوعاً أو قصفاً. لا ضير في ذلك ما دامت القضية “معقدة”. لا شيء يقلق راحة العالم ما دامت “الحرب” تجري هناك بعيداً، في الشرق الأوسط المنكوب دائماً بالقتل والحروب.
يوقظ الغزيون العالم بدمائهم. يوازنون الصورة المختلة، لكن بموتهم. يصحو العالم على خبر فتح الرصاص على المئات ممن ينتظرون الطحين. “مجزرة الطحين” هي إذاً، اسم جديد لنكبة عمرها ست وسبعون عاماً.
تتداعى صحف العالم لنشر مانشيتات عن الجريمة. تحار في تسميتها، تهرب إلى العناوين الخبرية الصرفة التي تتحرى “الدقة المتناهية”، “أنباء عن إطلاق نار على جموع من الفلسطينيين”، تغدو برودة اللغة مقتلة أخرى، فلا هي “مجزرة” ولا “مذبحة” ولا “إرهاب” أو “جريمة”.
الجيش الإسرائيلي قال إن جموعاً من الفلسطينيين تجمعت و”نهبت” المساعدات الإنسانية لدى إدخالها في شاحنات إلى شمال غزة. مئات الفلسطينيين اقتربوا من القوات الإسرائيلية و”شكلوا خطراً عليها”، فردت القوات بإطلاق النار. هكذا ببساطة.
جوّع الناس حتى يتهافتوا على الطحين، ثم اسخر من “هميجيتهم” وهم يتخاطفون الأكياس، ثم اقتلهم لأن جوعهم يشكل خطراً عليك. وصفة للقتل تقدمها إسرائيل للعالم في العام 2024.
في المشهد ما يشبه مصيدة الحشرات. يقبل العالم “المتحضر” أن يُحوَّل البشر إلى حشرات، وهو الذي ظن أنه أرسل العبودية إلى متاحف التاريخ. لا شيء يوقف إسرائيل، لا أحد يحاسبها، تبدو وكأنها فوق البشر وفوق الكوكب.
أي كراهية ينتجها كل هذا القتل! أي تطرف يتم تسليم شعوب كاملة إليه! تخطئ أوروبا إن ظنت أن الجغرافيا تحول بينها وبين ما تنتجه حرب غزة من كراهية. فلطالما كانت فلسطين سلاح التطرف في تجنيد الشباب لمهاجمة الغرب. هل ننسى أن الذين هاجموا برجي التجارة في نيويورك استخدموا فلسطين رافعة لتطرفهم؟ ما تخسره أوروبا من صمت كثير من نخبها الحاكمة على جرائم إسرائيل أكثر بكثير مما تربحه، وإن روّجت قوى اليمين فيها عكس ذلك. بل إن ما تخسره إسرائيل نفسها أكبر بكثير مما تكسبه وإن بدت عكس ذلك.
نكبة جديدة للفلسطينيين في غزة، لا شيء يجمّل المشهد. لا حديث الدول الكبرى عن الاعتراف بدولة فلسطينية، ولا حديث الإعلام العربي عن نصر “متوهم”. السياسة التي لا تستطيع أن تحمي شعبها أو أن تجنبه المذبحة لا يمكنها أن تدعي نصراً وإن دمرت ألف دبابة. بقاء الفلسطيني في بيته وأرضه أول بديهيات المقاومة، وأصبح واضحاً أن إسرائيل تريد تحويل غزة إلى مكان غير ملائم لعيش البشر.
لا منتصر في حرب غزة. الإنسانية كلها تفشل مجدداً. والأكثر ألماً أولئك الذين انتظروا طحيناً ليأكلوا خبزاً فمضغوا حسرة بطعم الدم.
مهند أبو زيتون