لم يكن أحد يتوقع من الحاضرين في حفل توزيع أكبر مهرجان سينمائي في السويد، أن يخصص المخرج الفائز بالجائزة الأولى كلمته لتسليط الضوء على الإبادة الجماعية والمعاناة الإنسانية التي يشهدها قطاع غزة على مدار 15 شهراً، ولم يكن أحد أن يتصور مدى شجاعة هذا المخرج في طرح قضية بعيدة عن موضوع الجائزة التي نالها، ويعرض نفسه للانتقادات من جهات يمينية متطرفة تعتبر أن الفن يجب أن ينفصل عن السياسة.
المفاجأة جعلت حتى التلفزيون السويدي SVT الذي ينقل الحدث يضطر لرفع صوت الموسيقى للتغطية على صوت المخرج، تماماً مثل ما يحدث في تلفزيونات أنظمتنا العربية التي يصفونها بالديكتاتورية، عندما يقطعون البث عليك في مثل هذه الحالات لتظهر المذيعة الجميلة معتذرةً مع ابتسامة مصطنعة عن عطل فني طارئ. من حيث المبدأ تساوت هنا دكتاتورية أنظمتنا السابقة مع ديمقراطية أنظمتنا الجديدة.
المخرج السويدي ليفان أكين، الذي له أصول جورجية، تلقى ترحيباً غير عادي من الجمهور بعاصفة من التصفيق عند نطقه كل مرة بكلمة “غزة”، فيما كشفت الكاميرا عن دموع العديد من السيدات الحضور أثناء كلام ليفان عن أطفال غزة.
هذا الترحاب الحار داخل قاعة الاحتفال، قابلته موجة من انتقادات لاذعة وقصف مركز تعرض له المخرج السويدي، من نشطاء محسوبين على اليمين المتطرف انتشر في وسائل التواصل الاجتماعي، حجة هذا الهجوم هو أن المخرج استغل مناسبة فنية وثقافية للحديث في السياسة.
من الواضح أن مسألة فصل الفن والثقافة والرياضة عن السياسة، التي يريد البعض فرضها فقط عند الحاجة لها، هي مسألة انتقائية، وتُمارس بطريقة ازدواجية بشكل واضح وفاضح، إلى حد أن هذه الانتقائية هي بحد ذاتها سياسة تُستخدم بمعايير وتوجهات مختلفة تناسب المصالح والأولويات التي يُراد فرضها للتأثير على الرأي العام.
في كلمته غير المتوقعة، أوضح المخرج السويدي، بكلمات بسيطة ومعبرة المعنى العميق للفن والمهمة الأساسية للفنانين، من خلال مثال غزة، عندما قال “مهمتنا كفنانين هي الاستماع إلى الأصوات وراء أرقام ضحايا غزة، للتأكد من السماح لقصصهم بأخذ مكانها في الحيز الثقافي. ومن واجبنا ومن واجب مسؤولينا المنتخبين كبشر منع إحراق المدنيين أحياء في مخيمات اللاجئين التي نزحوا إليها”.
فيلم Passage الذي أوصل ليفان إلى الحصول على جائزة أفضل مخرج وأفضل فيلم، طرح قضية حياة متحولين جنسياً من جورجيا يقيمون في إسطنبول التركية، ومع ذلك اختار المخرج تخصيص خطابه في حفل توزيع جوائز الخنفساء الذهبية Guldbaggegalan للحديث عن “الإبادة الجماعية في غزة”.
تصرف المخرج ليفان أظهر هنا أنه لا يمكن الفصل بين القضايا الإنسانية، وأنك عندما تتعاطف مع قضايا إنسانية مختارة ومحددة وترفض التعاطف مع قضايا أخرى، فهذا يسمى نفاقاً وممارسة واضحة لسياسة الكيل بمكيالين.
وهذا الكلام ينطبق أيضاً على من يريدون التعاطف فقط مع غزة، أو فقط مع سوريا، ويرفضون تفهم معاناة الآخرين.
وهو ما يدعونا إلى التفكير بشكل أوسع من منظور إنساني، فلا نستغرب عندما يتعاطف فلسطيني مع معاناة اليهود في الأمس على يد النازيين القدامى، وأن يقف اليهودي مع المسلم في أوروبا بوجه تمدد خطر النازيين الجدد.
فصل السياسة عن الفن والثقافة والرياضة، بشكل انتقائي هو ممارسة سياسية بحتة، كما قلنا، لإفراغ هذه الأنشطة من معناها الإنساني، خصوصاً أن تأثيرات هذه الفنون وهذه الأنشطة، يمكن أن تقرب البشر لبعضهم ويمكن أن تحمي الأجيال من ثقافة التفاهة السائدة وبشكل مقصود أحياناً على وسائل التواصل الاجتماعي، فواجب السياسة هنا الحرص على تنشئة جيل معافى نفسياً وجسدياً، محصن من الشائعات والتفاهات. وهنا نعود لكلمات المخرج مرة أخرى وهو يشرح عن فيلمه: “يدور هذا الفيلم حول أولئك الذين نادراً ما تُسمع أصواتهم. وأثناء تصوير هذا الفيلم، فكرت كثيراً في معنى أن تكون إنساناً وأن فكرة القيمة المتساوية لجميع الناس اليوم أصبحت عملاً سياسياً”.
إضافة إلى أن توكيل السياسيين بشكل حصري للحديث عن معاناة البشر، هو تخل كامل عن إنسانية الأنشطة الاجتماعية والأعمال الإبداعية، وهنا نذكر ما قاله المخرج ليفان في نفس الكلمة: “إن جيلًا كاملاً من الأطفال في غزة يكبرون مع صدمات لا توصف. إذا أصبح الدفاع عن إنسانية الفلسطينيين سياسياً، فنحن بحاجة إلى أن نكون سياسيين. لأننا من خلال ذلك، نكون ندافع أيضاً عن إنسانيتنا”. هذا الربط الموفق والواضح بين الدفاع عن إنسانية الفلسطيني وعن إنسانية بقية البشر، هو ما يجب أن يكون سائداً عند ممارسة إنسانيتنا اليومية.
محمود آغا