العصابات تتمدد.. والمهاجرون على المذبح

: 1/20/23, 2:05 PM
Updated: 1/22/23, 11:56 AM
العصابات تتمدد.. والمهاجرون على المذبح

وادعة مدينة سوندسفال. تطل على البحر من علٍ كحكيم يتأمل الفلسفة منذ أن وضع أفلاطون الحكمة في تأمل الذات، ومنذ أن قال أرسطو مقولته الشهيرة “اعرف نفسك” مفتاحاً للمعرفة.

هدوء المدينة الحجرية التي قاومت الحريق بالحجر قبل أكثر من مئة عام لا يقطعه سوى حديث الناس اليومي عن البرد والتغير المناخي والبيئة التي تهددها أدخنة المصانع.

لا تتصدر المدينة، التي لا يتجاوز عدد سكانها الـ100 ألف إنسان، الأخبار عادة، لكنها فجأة تصبح عنواناً في نشرات الأخبار الرئيسة. العنف المتصاعد في العاصمة ستوكهولم سببه سوندسفال التي تبعد عن العاصمة أربع ساعات، وأربع درجات مئوية على مقياس الحرارة، وأربع سنوات من عمر العنف ربما.

عصابتان في ستوكهولم يتزعم إحداهما شاب عمره 24 عاماً فقط، فيما يتزعم الآخر “ثعلب” عمره 36 عاماً تطارده الشرطة منذ وقت طويل. الأول يسيطر على سوق المخدرات في سوندسفال، فيما يحاول الآخر انتزاع السيطرة في سوق باتت تتوسع خارج المدن الكبرى لتصل حتى إلى أقاصي الشمال.

تفجير مقابل تفجير، ورصاص مقابل رصاص، تلك هي قواعد اللعبة في الصراع حتى الآن. رسائل يوجهها المتصارعون إلى بعضهم ويكتبونها بالنار والديناميت.

تقرأ الأخبار فيلح السؤال: وهل هناك سوق مخدرات في سوندسفال؟

تجيب ذاكرتك من واقع الحال نعم. مدارس تحذّر طلابها من انتشار المخدرات. وطلاب يتحدثون عن زملاء صغار لهم على مقاعد الدراسة سحبتهم المتعة المدعاة إلى عوالم أخرى. وعدد من طالبي اللجوء في الكامبات يحدثونك عن سهولة بيع المخدرات واستسهال الكسب السريع لشباب لم يتلمسوا طريقهم في البلد الاسكندنافي بعد.

لم يعد أحد بمنأى عن عنف العصابات في المدن الكبرى. العصابات تتوالد في ظل عجز الدولة، كل الدولة، عن ردعها. السوق تحتمل تمدداً، و”الفرص” موجودة في مناطق ما زالت بكراً.

الجدل السياسي حول الموضوع يتصاعد أيضاً. نجاح حزب SD في الربط بين الهجرة والجريمة أكسبه الانتخابات. العصابات من أبناء المهاجرين، من الجيل الثاني والثالث. وكل ما تواجهه السويد الآن سببه أنها فتحت أبوابها للمهاجرين، فإن أوقفنا الهجرة وشددنا القوانين نعود للعيش بأمان. هذا ما نجح SD في بيعه لقسم يُعتد به من السويديين الباحثين عن الأمان.

دراسات عدة تشير إلى أن الناس يميلون عادة إلى المبالغة في الربط بين الهجرة والجريمة. دراسة نشرتها مجلة The international joiurnal of intercultural relations العام 2016 تؤكد أن وسائل الإعلام تميل إلى تصوير المهاجرين بأنهم أكثر عرضة للإجرام.

ورغم أن الدراسات التي تبحث في العلاقة السببية بين الهجرة والجريمة نادرة، فإن دراسة أجراها مركز Spire عن الجريمة في أوروبا تظهر أن هذا الربط السببي ناتج عن ميل المهاجرين إلى السكن في المناطق الضعيفة أو المحرومة نتيجة لاوضاعهم الاقتصادية المتدنية، ما يخلق تعميماً لدى بقية السكان يطال الجميع، رغم أنهم أكثر المتضررين من الجريمة باعتبارها تحصل في مناطقهم أصلاً.

إذاً جذر المشكلة اقتصادي اجتماعي، وليس عرقياً كما يحلو لليمين المتطرف تصويره. وهو في السويد تعبير واضح عن فشل “الاندماج” رغم كل الشعارات المرفوعة من اليمين واليسار حول “تعزيز الاندماج”. شباب ولدوا وتربوا ودرسوا في السويد ما زالوا يتبعون القيم العشائرية، يعادون المجتمع ولا يرون فيه إلا فرصة للكسب السريع والزعامة. وعلى هذه الطريق يسقط ضحايا من هؤلاء الشباب أنفسهم، ومن آخرين أبرياء لا ذنب لهم سوى أنه ولدوا في البيئة نفسها.

المشكلة أعمق بكثير مما يطرحه SD ووراءه أحزاب اليمين اليوم. وهي أعصى حتى من الحلول التي تطرحها أحزاب اليسار رغم حديثها الدائم عن جذر المشكلة.

قد يخفف تشديد العقوبات ومنح صلاحيات أكبر للشرطة من حدة المشكلة، وقد يفاقمها في مرحلة أولى، لكنه بالتأكيد لن يقتلع جذورها. وسيبقى سؤال الهجرة والجريمة يلح على السويد طويلاً.

إزاء ذلك تبدو مجتمعات المهاجرين متفرجة وهي تشاهد مصيرها يُطحن بين العصابات وأحزاب تريد اقتلاعها. لا تراكم تلك المجتمعات أي وعي في مواجهة الأزمة، ولا تخوض أي حراك قد ينتج مؤسسات مجتمع مدني حقيقية تلعب دور الوسيط بين المجتمع المحلي والمجتمع الأكبر، أو حتى تردم هوة معرفة المجتمعين ببعضهما. فتبدو مجتمعات المهاجرين على كثرتها وانقسامها كقطيع يساق إلى الذبح على مذبح العصابات واليمين المتطرف دون أن تنبس ببنت شفة.

قصص النجاح الفردية التي تنتجها هذه المجتمعات وتتغنى بها قد تصلح إلهاماً فردياً لكثيرين لكنها لا تشكل حالة جماعية تقاوم الواقع، خصوصاً أن كثيراً من هؤلاء “الناجحين” سرعان ما ينؤون بأنفسهم عن مشكلات مجتمعاتهم المحلية كي لا تأكلهم العاصفة أو تغرقهم الموجة.

القفز من سفينة تغرق قد يصلح حلاً فردياً أحياناً، لكنه لن يجدي حين تكون السفينة في وسط المحيط.

إنقاذ السفينة عمل معقد ويتطلب تكاتفاً تفتقده مجتمعات المهاجرين المنقسمة، ويقتضي بحثاً وتحليلاً ومعرفة بالواقع لا ترغب نخب هذا المجتمع في بذل الجهد عليها. ألم يقل أرسطو قبل 2300 سنة “اعرف نفسك”؟!

وإن كان الحديث هنا يوجَّه للمجتمعات المهاجرة ونخبها وقادة الرأي فيها، لأنه مكتوب بالعربية، فإن هذا لا يعفي المجتمع السويدي الأكبر من تحمل مسؤولية فشل الاندماج وتداعياته.

انقسام المجتمع الذي يحذّر منه جيمي أوكيسون ويتبنى في الوقت نفسه خطاباً يعمقه، أمر يهدد السويد فعلاً، غير أن الضحية الأولى لانقسام كهذا هم المهاجرون أنفسهم. فهل نعي ذلك حقاً؟!

مهند أبو زيتون

Alkompis Communication AB 559169-6140 © 2024.