في نفس المكان وفي نفس التوقيت تشهد مدينة مالمو فعاليات وأحداث، يمكن لأي مشاهد وللوهلة الأولى أن يحكم على السويد بازدواجية المعايير، بل بالتمييز المتعمد ضد فئة من السكان. المتابع للمشهد يرى أن السويد تسمح بحرق المصحف تزامناً مع مسابقة الأغنية الأوروبية وبنفس الوقت تمنع رفع العلم الفلسطيني داخل قاعة المسابقة، السماح بحرق المصحف هو أمر يتعلق بحرية التعبير حسب القانون الأساسي السويدي، ولكن منع رفع علم فلسطين يخضع لقوانين اتحاد البث الأوروبي EBU من أجل حفظ الأمن، حسب التبرير الرسمي.
ليس ذلك فقط، بل إن مدينة مالمو وحسب تقارير صحفية تنوي إلغاء الاحتفالات بعيد الأضحى التي تقام كل عام في إحدى حدائق المدينة، لأنها تريد توفير موارد مالية أكثر في تأمين الأمن أثناء مسابقات يوروفيجن، خصوصاً أن هناك تخوفات من حدوث تجاوزات أمنية بسبب المعارضة التي تواجهها المشاركة الإسرائيلية. أمر نفته مدينة مالمو، وقالت إن تخصيص موارد لاحتفالات العيد، مرتبط بنتائج تحقيق يقوم به مجلس مقاطعة سكونا، حول جمعية من الجمعيات المنظمة للاحتفالات.
تعليقات عدة انتشرت على وسائل التواصل بين سويديين غاضبين، يقولون لماذا نحن من يجب أن يدفع فاتورة حماية المشاركة الإسرائيلية من الضرائب، ألم يكن من الحكمة منع إسرائيل من المشاركة كما حصل مع روسيا؟
الإرادة السياسية الغربية وجهود إقصاء إسرائيل عن مسابقة يوروفيجن
لم تفلح كل الجهود التي بذلتها شخصيات ومجموعات فنية وثقافية لمنع مشاركة إسرائيل في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لهذا العام 2024 في مالمو. أكثر من 1000 فنان وموسيقي سويدي وقعوا على عريضة تعارض مشاركة إسرائيل في المسابقة الأوروبية. بينما أعلن فنانون مثل “ميدينا” وDotter و Titiyo وكذلك “مالمو برايد”، مؤخراً عن انسحابهم من الحفلات الموسيقية والفعاليات التي تجري في قرية يوروفيجن بالتوازي مع المسابقة الرسمية.
كل هذه البيانات والعرائض، لم تؤثر بشيء على قرار مشاركة إسرائيل، إمام إرادة سياسية أوروبية تعتبر أن هذه الدولة جزء من العالم الغربي، بينما بقية دول الشرق الأوسط وروسيا خارج هذا العالم الغربي ولا ينتمون له ولا لقيمه.
كل ذلك إزاء التكلفة الباهظة التي ستدفعها مدينة مالمو ثمناً لإجراءات أمنية إضافية لحماية أمن المناسبة التي تبدأ بعد حوالي أسبوع على مدار أيام 7 و9 و11 مايو.
مدينة مالمو من خلال مجلس إدارتها أكدت أكثر من مرة أنها تسعى لاستغلال استضافة المسابقات هذا العام لتسليط الضوء على المدينة السويدية التي تضم أكبر نسبة تنوع عرقي في السويد وربما في أوروبا كلها، وقرار مشاركة إسرائيل من عدمه ليس بيدها، بل بيد اتحاد البث الأوروبي EBU الذي يشكل التلفزيون السويدي SVT أحد أعضائه.
صحيح أن مالمو لا تقرر، ولا حتى السويد، من سيشارك بالمسابقات، ولكن كان من الممكن أن تشارك السويد برأيها حول مشاركة إسرائيل هذا العام، تماماً كما حدث عند إبعاد روسيا عن المسابقات بعد غزوها لأوكرانيا، عندها كتبت مديرة التلفزيون السويدي مقالاً طالبت به باستبعاد روسيا على أساس سياسي، وبسبب أنها هاجمت دولة مجاورة لها. الآن تقوم قوة احتلال بغزو منطقة محتلة ومحاصرة وتتسبب بدمار مدن كاملة بمرافقها وبنيتها التحتية وبمقتل حوالي 170 شخصاً مدنياً يومياً على مدار أكثر من 200 يوم، ولا يعتبر هذا سبباً سياسياً لاستبعاد إسرائيل.
تمييز وازدواجية معايير ولكن…
نعم يشعر العديد من الفلسطينيين والمناصرين لهم بأن هناك تمييزاً وازدواجية معايير واضحة، عندما يتعلق الأمر بالعلاقة مع إسرائيل، حتى أن هناك مواطنين من أصول يهودية في السويد وأوروبا وبقية العالم، يشعرون بأن هذا التمييز مرفوض أولاً من ناحية إنسانية، وقد يشكل خطراً عليهم وعلى المجتمعات الغربية ككل، لأنه قد يؤدي إلى ضعف الإيمان بالمبادئ الديمقراطية وقد يقود إلى زيادة معادة السامية، هذا الخطر موجود فعلاً، خصوصاً أن أهوال المحرقة لا تزال عالقة في أذهان البشرية كلها.
نعم يستشعر العديد من الناس المراقبين العاديين خطر التمييز الواضح، وأغلبهم يخافون على مستقبل القيم الغربية التي ناضل آباؤهم وأجدادهم طويلاً من أجلها، قبل أن يشعروا بالشفقة على الفلسطينيين وعلى كل من يشعر بالإحباط وتراجع الثقة بالمجتمع الذي يعيشون به.
التعاطف العاجز مع الضحية والشعور بالشفقة عليه لا يكفي لإعادة قيم المساواة والعدالة والتسامح إلى نصابها للجميع. من الجميل أن يزداد عدد المتعاطفين وعدد من يشعرون بالشفقة الإنسانية، لكن من المهم أن ينتبه المجتمع ككل إلى أن أي تساهل أو تراخٍ أو غض نظر عن اضطهاد فئة من المجتمع سيكون بداية انهيار النظام الاجتماعي الحالي.
السبب بسيط جداً عندما نعرف أن هناك قوى متطرفة لها مصلحة بهدم النظام الحالي القائم على التعددية والمساوة واستبداله بنظام أحادي وطبقي، يجب أن يعيد الجميع النظر إلى التاريخ وكيف أدى غض النظر عن اضطهاد اليهود إلى انتعاش وحش النازية، خصوصاً أن هذا الوحش لا يزال موجوداً ويمكن أن يقوم عند أي فرصة.
من المهم جدا أن لا يتخلى من يشعر بالإحباط في السويد أو في أوروبا من ممارسات قد يعتبرها تمييزاً بحقه عن جملة ثوابت أساسية:
يجب أن يعرف الجميع أن هناك من له مصلحة إما باستفزازك لكي ترتكب مخالفات تؤكد ما يروجون له من أنك شخص عنيف وغير قابل للاندماج، أو في أن يعزلك ويجعلك تتراجع عن التقدم والاندماج بالمجتمع، وتغلق نفسك على دوائر محدودة لكي تفقد الثقة أكثر بالمجتمع ومؤسساته. من المهم جداً أن ننتبه لهدف من له مصلحة بتصويرك إما شخصاً انفعالياً وعنيفاً أو كائناً على الهامش لا حول لك ولا تأثير في المجتمع.
من المهم الابتعاد عن تفسيرات نظريات المؤامرة، وبأن هناك قوى خارقة تخطط لك وترسم قدرك وأنت مجرد حجر شطرنج ضمن لعبة كبيرة، وأنك مهما حاولت واجتهدت سيبقى مصيرك مرتبطاً بالكبار.
أنت لست وحيداً، هناك قوى عديدة تقف معك وتناصر حقك لكن من الضروري جداً ألا تفقد الثقة بالمجتمع الذي تعيش به، وأن تبقى نؤمن بمؤسساته وقيمه، أي غلط أو انحراف عن هذه القيم يجب التصدي له بالطرق القانونية والديمقراطية من خلال التفاعل والانضمام إلى التجمعات التي تريد أن تساعدك لكنك بعيد عنها، هذه التجمعات التي قد تكون حزباً، أو منظمة مدنية أو نقابة أو جمعية يمكن أن يصبح صوتها أعلى وأقوى في حال انضممت لها.
كما نقول دائما الحياة صراع بين أضداد ومن المهم أن تقف مع الجهة الصحيحة التي تضغط وتصارع من أجلك، لأن الحياد السلبي هنا لا يجدي، وللحديث بقية، ولكن إلى اللقاء.
محمود آغا