افتتاحية الكومبس

حرية التعبير ثقافة وأخلاق

: 1/31/25, 6:00 PM
Updated: 1/31/25, 6:01 PM
حرية التعبير ثقافة وأخلاق

في العام 2011، ومع بداية الأحداث التي شهدتها عدة دول عربية تحت مسمى “الربيع العربي”، لعب موقع فيسبوك دوراً محورياً في تنظيم وتجييش الاحتجاجات، التي أدت إلى زعزعة وإسقاط عدة أنظمة عربية. آنذاك، كانت الرقابة اللوغاريتمية ضعيفة أو معدومة، ما منح الناشطين مساحة مفتوحة للتعبير والحشد. ما زلت أذكر صديقاً قال لي إنه يقيم في فيسبوك ليلاً ونهاراً، مثل العديد من الشباب العرب الذين وجدوا في هذا الفضاء الافتراضي ملاذاً آمناً يعوضهم عن الحريات المفقودة في الواقع.

اليوم، بعد مرور أربعة عشر عاماً، ورغم فرض بعض القيود الرقابية وظهور منصات أخرى، لا يزال فيسبوك ملاذًا لمن يبحثون عن حرية التعبير، وإن كان كل شخص يفسر هذه الحرية وفق مفاهيمه الخاصة.

حرية التعبير في السويد بين القوانين والتحديات

في بلد مثل السويد، تعد حرية التعبير حقاً دستورياً راسخاً، محمياً بموجب أربعة قوانين أساسية تشكل ركيزة النظام القانوني في البلاد:

1. قانون شكل الحكومة (Regeringsformen): يحدد كيفية حكم البلاد، ويضع حدوداً لسلطة الدولة على حقوق المواطنين.

2. قانون تنظيم العرش (Successionsordningen): يحدد من يكون ملك البلاد، رغم أن دوره رمزي دون سلطة سياسية.

3. قانون حرية الصحافة (Tryckfrihetsförordningen): يضمن حرية نشر المعلومات والآراء، ويمنح الحق في الوصول إلى الوثائق الرسمية.

4. قانون حرية التعبير (Yttrandefrihetsgrundlagen): يحمي حرية الأفراد في التعبير عن آرائهم عبر مختلف الوسائل.

لكن هذا التقديس لحرية التعبير لم يكن هبة مجانية، بل تحقق نتيجة نضالات تاريخية وتضحيات كبيرة قدمها السويديون عبر الأجيال. ومع التغيرات السريعة في المجتمع السويدي، لا تزال هناك نقاشات مستمرة حول كيفية التوفيق بين قدسية الحرية والتحديات التي فرضها التطور التكنولوجي والتواصل الرقمي، إضافة إلى استقبال مئات الآلاف من المهاجرين، الذين قد يواجه بعضهم صعوبات في فهم ثقافة حرية التعبير، ما قد يؤدي إلى سوء استخدامها أو الوقوع ضحايا لاستغلالها من قبل العنصريين.

عقلية فيسبوك.. متى تتحول حرية التعبير إلى إيذاء؟

المشكلة التي تستحق النقاش هنا، تتعلق بالبعض ممن هاجروا إلى السويد منذ فترات طويلة، لكنهم لا يزالون يعيشون بعقلية فيسبوك، غير مدركين للحد الفاصل بين حرية التعبير وإيذاء الآخرين.

بعضهم لا يرى في حرية التعبير سوى مساحة للانفجار والغضب عبر التعليقات، دون احترام آداب الحوار أو تقبل الرأي المخالف. هذا السلوك لا يعكس حرية رأي حقيقية، بل يعكس موروثات من عصور القمع والخوف، حيث يتهيب البعض مواجهة الواقع، فيمارسون “بطولة زائفة” في العالم الافتراضي.

يحدث أحياناً أن تحذف الكومبس تعليقات مسيئة أو تحرض على الكراهية، فيرد أصحابها بمزيد من الشتائم والاتهامات، وكأنهم كانوا متعطشين للانفجار بحريتهم المكبوتة. لكن السؤال هنا: هل حرية التعبير تعني الحق في الإهانة والتحريض والتشهير؟ بالتأكيد لا.

إن كيل الاتهامات بدون دليل، أو نشر خطاب الكراهية، لا يدخل ضمن حرية الرأي، لا في السويد ولا في أي مجتمع يحترم الديمقراطية. المشكلة الأكبر أن كثيرين لا يقرؤون حتى المقالات التي يهاجمونها، بل يكتفون بالتعليق بناءً على العنوان أو النص المختصر. هذا يدل على كسل فكري ونمط تفكير نمطي، حيث يتم إسقاط الأفكار المسبقة على أي محتوى دون محاولة فهمه.

الإعلام ليس ملزماً بمجاراة المزاج الشخصي

هناك فئة أخرى تتوقع أن تقدم لهم الوسائل الإعلامية الأخبار التي تتناسب مع توجهاتهم فقط. أي خبر خارج هذا الإطار يصبح تلقائياً هدفاً للهجوم والتخوين والشتائم. هذه العقلية تتنافى تماماً مع مفهوم الإعلام الحر، الذي لا يتبع أهواء الأفراد، بل يسعى لنقل الحقائق وإثراء النقاش العام.

لا شك أن بعض المعلقين يكتبون بعصبية أو تهور، سواء بسبب مشاعر الإحباط، أو الغضب، أو الشعور بالتهميش، لكن يبقى الأثر السلبي لهذا السلوك أكبر مما نتصور. وهنا يأتي دور الإعلام في تعزيز ثقافة الحوار واحترام الرأي الآخر، وليس مجرد فتح باب التعليقات بلا قيود.

لا ديمقراطية من دون وعي

نحن نعيش في بلد ديمقراطي، لكن الديمقراطية لا تُمنح لمن لا يعرف حقوقه، أو لمن يستخدمها دون وعي أو مسؤولية. حرية التعبير ليست أداة للتهجم على الآخرين، بل حق يقابله التزام أخلاقي باحترام الجميع.

قد تكون حرية التعبير الركيزة الأساسية للديمقراطية، لكنها تفقد قيمتها إذا تحولت إلى سلاح لنشر الكراهية والتشهير. لذا، من الضروري أن نتساءل دائماً: كيف نمارس هذه الحرية؟ وهل نستخدمها لبناء مجتمع أكثر انفتاحاً، أم لهدم أسس التعايش؟

وللحديث بقية ولكن إلى اللقاء.

محمود آغا

Alkompis Communication AB 559169-6140 © 2025.
cookies icon