افتتاحية الكومبس

رحيل أحد أعمدة السويد التي نعرفها

: 10/6/23, 3:52 PM
Updated: 10/6/23, 6:25 PM
توفي بيير جارتون عن عمر 80 عاماً
Foto: Peter Krüger / TT
توفي بيير جارتون عن عمر 80 عاماً Foto: Peter Krüger / TT

قبل أيام رحل الكاتب والسياسي السويدي بيير جارتون (Per Gahrton) بكل هدوء عن عمر 80 عاماً، تاركاً خلفه سجلاً طويلاً وصاخباً من حياة مثيرة، عاشها شاهداً ومشاركاً في أحداث مهمة من تاريخ السويد المعاصر، فهو أحد مؤسسي حزب البيئة الحالي، بل يمكن القول إنه المؤسس الأساسي له، كما شارك وساعد على تأسيس عدة أحزاب خضراء في أوروبا، وساهم في تأسيس منظمة نصرة الشعب الفلسطيني في السويد المعروفة بـ Palestina grupperna . وألّف عدة كتب منها عن القضية الفلسطينية، وكان مدافعاً قوياً عن حقوق الإنسان وعن القضايا الدولية العادلة.

خلال فترة وجودي في السويد التي تمتد إلى حوالي 34 عاماً كنت أرى هذا السويدي الناشط باندفاعة وحماسة المؤمن بما يقوم به، في أغلب المناسبات التي تناصر الفلسطينيين وغيرهم من أصحاب قضايا حركات التحرر، وكنت أشاهد وجوده وبصمات عمله السياسي والصحفي في الدفاع عن الفئات الضعيفة في المجتمع وعن مسائل الحفاظ على البيئة وحمايتها.

نعت عدة أقلام سويدية ودولية رحيل بيير جارتون، الصحفية Kerstin Nilsson كتبت عن “الفتى المشاكس” مقالاً في أفتونبلادت مما جاء فيه: “أراد بير جارتون أن يحدث فرقاً. حلم بتشكيل حزبٍ للمستقبل، وهذا ما دعاه أساساً لتشكيل حزب البيئة. اعتبره البعض حاد الطباع، لكنه كان مرحاً ومتعاطفاً، وفي الوقت نفسه غاضباً وصدامياً ويرفض المهادنة. لم تأت هذه الأوصاف من عبث، فقد أطلق عليه زملاؤه في وقت من السابق من مراحل شبابه لقب “أغرب شاب في السويد” كان وقتها رئيس تحرير مجلة طلابية في مدينة لوند. نفس هذ الشاب الغاضب عندما وصل للبرلمان كان يسمى “فتى البرلمان المشاكس”. كان بيير جارتون يقول رأيه بشجاعة ويجاهر بحقيقة ما يراه وكان يحب أن يسلك طريقه الخاصة، بكل حماسة الشباب، حتى عندما بدأ الشيب يغزو شعره الداكن بقي وجهه بالحاجبين القويين يعبران عن قوة الالتزام بما يؤمن به”.

وتتابع الكاتبة: “عندما تحمس لفكرة تأسيس حزب البيئة، وجد أنه يمكن أن يحقق حلمه في إحداث الفرق الحقيقي الذي أصبحت قضاياه هي قضايا حزب البيئة. وفي كثير من الأحيان، كانت قصته هي قصة حزب البيئة. حقيقة مدهشة، حزب البيئة تأسس فعلياً في مطبخ جارتون الخاص”.

كانت البداية في 30 سبتمبر 1980، عندما اجتمع نحو 20 شخصاً في منزله وقدّم الجميع أنفسهم، طرح السؤال عليهم: هل يجب أن نشكل حزباً سياسياً جديداً؟ كان جواب الجميع “نعم”. كانت لحظةً حاسمة وشعر كل الحاضرين وكأن رياح التغيير قد هبت (حسب مقابلة سابقة مع بيير جارتون العام الماضي) وفي نفس الليلة، تلقت وكالة الأنباء السويدية TT بياناً صحفياً يذكر الأشخاص الذين يخططون لتشكيل حزب سياسي جديد.

عندها ترك بيير حزب الشعب (حزب الليبراليين حالياً) في العام 1981، احتجاجاً على سياسات الحزب البيئية خاصة اندفاعه نحو سياسة الطاقة النووية، وعدم المساهمة في وقف تدمير الغابات، وعلى سياسات أخرى للحزب وصفها بالسياسات الحزبية المتشابكة.

يقول أيضاً “لم يكن من الكافي أن نُظهر الاحتجاجات في الشوارع والساحات، من أجل تحقيق الفرق الحقيقي، كان يتطلب ذلك من الحركة البيئية دخول البرلمان”. تعززت هده الفكرة لدى بير جارتون عندما كان في عضواً في البرلمان عن حزب الشعب في أواخر السبعينيات.

في العام 1984، أصبح بير جارتون وراجنهلد بوهانكا أول زعيمين لحزب البيئة، أحدهما رجل والآخرة امرأة. كان هذا النوع من رئاسة الأحزاب مثيراً للجدل، في انتخابات العام 1988 دخل الحزب البرلمان بـ20 مقعداً وبالطبع كان بيير جارتون واحداً منهم، وكان في كثير من الأحيان هو الشخصية الرائدة للحزب. وهذه كانت هي المرة الأولى منذ 70 عاماً التي ينضم فيها حزب جديد إلى البرلمان السويدي.

بعد ثلاث سنوات، أصبح حزب البيئة أول حزب يخرج من البرلمان لعدم كفاية الأصوات. لكنه عاد مرة أخرى في انتخابات العام 1994، وبقي إلى اليوم.

كل الأقلام التي نعت بيير جارتون ذكّرت مواقفه المؤيدة للحقوق الفلسطينية من خلال السياسة والصحافة وتأليف الكتب. كان منغمساً بشدة في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وكتب العديد من الكتب حول هذا الموضوع. اعتبره الكثيرون يسارياً متطرفاً لأنه دافع عن حق فلسطين في المقاومة المسلحة ضد الاحتلال، حسب عدة مقالات نعته.

في استفتاء انضمام السويد إلى الاتحاد الأوروبي، كان بير جارتون يُمثل الجانب الرافض لانضمام السويد إلى هذه المنظمة، وقد أصيب بخيبة أمل عميقة عند فوز الجانب المؤيد للاتحاد.

بعدها، وفي حوار تلفزيوني، قال لزعيم حزب المحافظين الموديرات السابق كارل بيلد، الذي كان آنذاك رئيس وزراء السويد “احبس أنفاسك” أو بمعنى أن يخرس. أصبحت هذه العبارة من الحوار مقطعاً تلفزيونياً كلاسيكياً.

ومع ذلك ترشح بيير جارتون للبرلمان الأوروبي ونجح بالبقاء فيه لمدة ثماني سنوات، من العام 1995 إلى 2004، معتقداً أن البرلمان الأوروبي منبراً مناسباً لإثارة قضايا حقوق الإنسان، خصوصاً من خلال اشتراكه في لجنة الشؤون الخارجية وحقوق الإنسان، وشارك كمراقب للانتخابات في جورجيا، والأراضي الفلسطينية وروسيا وإندونيسيا.

في فبراير هذا العام، بلغ عمر بيير جارتون 80 عاماً. وفي احتفاله بهذه المناسبة، صدر الجزء الأول من سيرته الذاتية بعنوان “تحديات – مع رغبة حرية ليبرالية في القلب”. في هذه السيرة، يحكي عن طفولته وكيف توفت والدته بسبب السرطان عندما كان عمره تسع سنوات. كان والده طبيباً وتزوج من امرأة جديدة كانت تمتلك مزرعة.

اضطر الشاب بيير لمغادرة حياة المدينة في كريخانستاد ليعيش في مزرعة مع الأبقار والدواجن. كان حبه للطبيعة ينمو هناك. كما مرة بأزمة إدمان على الكحول لكنه استطاع الإفلات منها، بعد حكم بالسجن عليه بتهمة القيادة تحت تأثير الكحول. ولديه ابنة من زواج سابق.

من أقوله إمام أعضاء في الكنيسيت أثناء زيارة له لإسرائيل: “أنا ووفقاً للتصور الإسرائيلي يهودي رسمياً، لأن جدتي كانت يهودية. وأعتبر أنه من السخف أن يكون لي الحق في أن أصبح مواطناً إسرائيلياً في نفس الوقت الذي لا يُسمح فيه للفلسطينيين في مخيمات اللاجئين بالعودة لديارهم”.

اخترت هذا الأسبوع الكتابة عن هذا الرجل الذي بدأ حياته كشاب يحمل فكراً مغايراً ويريد فعلاً أن يُحدث فرقاً، للتعريف به أولاً لمن لا يعرفه، ولكي نقول إن هذا الشخص يمثل أحد أعمدة السويد التي نعرفها، وأن المجتمع السويدي لا يزال مليئاً بأمثاله ممن يرفضون الظلم والعنصرية ويناضلون من أجل مبادئ العدل والمساواة والحرية، خصوصاً في هذا الوقت الذي تزداد فيه النزعات اليمينية المتطرفة وكراهية الأجانب.

د. محمود آغا

Alkompis Communication AB 559169-6140 © 2024.