طرائف وكوارث في سوق “الإعلام العربي” بالسويد

: 6/9/23, 10:29 AM
Updated: 6/9/23, 11:14 AM
(تعبيرية)
 Foto: Fotograferna Holmberg / TT
(تعبيرية) Foto: Fotograferna Holmberg / TT

حين كنا طلاب إعلام قبل أكثر من 20 عاماً كان أساتذتنا يروون لنا قصة صحفي أوفدته وكالة الأنباء في دولته إلى القاهرة لتغطية مؤتمر أدبي شهير، فقرر الصحفي توفير نفقات الرحلة وإرسال أخبار عن المؤتمر من حيث يجلس في قريته النائية موهماً الوكالة أنه مسافر. كان الصحفي طبعاً يسمع أخبار المؤتمر من الراديو ويعيد إنتاجها بصيغة رسالة صحفية، غير أن أمره انكشف حين كلفته الوكالة بإجراء حوار صحفي مع نجيب محفوظ بعد أن عرف رئيس التحرير أنه يحضر المؤتمر.

كانت تلك من النماذج التي يكررها أساتذة الجامعة للتحذير من خطورة الكذب في العمل الصحفي. وفي نادرة أخرى رواها لي مدير تحرير مصري أن مراسلاً لصحيفة الأهرام في قرية نائية كان قليل العمل، فألح عليه مديره في القاهرة بضرورة إرسال أخبار عن محلته. عصر الرجل ذهنه فتفتق عن خبر مفبرك، وأرسل برقية للصحيفة بخبر يحمل عنوان “عاصفة رملية تكشف عن مدينة أثرية”، ظاناً أنه تهرب بذلك من إلحاح مديره. غير أن الأخير رأى في الخبر مانشيتاً مهماً وأخبر رئيس التحرير الذي أبلغ بدوره مكتب رئيس الجمهورية. اتصل رئيس التحرير في اليوم التالي بالمراسل وأبلغه بأن يجهز نفسه لأن وفداً من رئاسة الجمهورية سيزور القرية للاطلاع على الأمر. حار صاحبنا فيما يفعل، فالكذبة كانت أكبر مما تصور. في اليوم التالي أرسل للصحيفة يقول “عاصفة رملية أخرى تردم المدينة الأثرية”.

بغض النظر عن مدى دقة القصة وتفاصيلها وما حل بالصحفي، فإنها واحدة من قصص كثيرة تحذّر الصحفيين من مغبة الكذب.

كان ذلك في زمن لا إنترنت فيه، ولا سوشال ميديا. اليوم مع التدفق الهائل للمعلومات، والبحث الدائم عن القراءات، صارت الكذبة أكبر، وأسرع انتشاراً.

“لا تكذب”، تلك قاعدة الإعلام الأولى، وربما قاعدة الأخلاق الأولى. مهمة الصحفي الأولى أن يقول للناس ماذا يحصل، وقدره الدائم البحث عن الحقيقة، حقيقة ما جرى ويجري، لأن تلك مهنته.

غير أن أساليب الكذب تطورت كثيراً، وصار لها متخصصون في الدعاية والإعلام والعلاقات العامة ورسم الاستراتيجيات. في فلسفة الإعلام نفسها شيء من التضليل، فمن يخبرك بما حصل، إنما يخبرك به في إطار تفاعله هو، كشخص او كوسيلة، مع ما حدث. والمرآة التي تعكس الواقع إنما تعكس الضوء من الزواية التي تريدها أو تراها. تلك إشكالية موضوعية تحاول القواعد المشددة للإعلام وضع حد لها.

تطورت أساليب الدعاية كثيراً عن غوبلز (وزير الدعاية الألماني إبان الحكم النازي) الذي يردد العرب اسمه أكثر من الألمان ربما. تستطيع وسائل الإعلام أن تقدم لك نصف الحقيقة وتقنعك تماماً بأنها الحقيقة كاملة، وأن تقدم لك رأياً واحداً وتوهمك بأنها تقدم الرأيين. في الحروب والأزمات الكبرى تصل الدعاية إلى أوجها، وتغيب الحقائق. ألم يقولوا قديماً إن الحقيقة أولى ضحايا الحرب.

السوشال ميديا تفاجئك دائماً بأن هناك من عاد بالكذب إلى سيرته الأولى. لا دعاية ولا تضليل ولا تذاكٍ، بل كذب صراح بواح ككذبة صاحبنا الذي كشفت له الرياح عن المدينة الأثرية.

أكاذيب وسرقات ترتدي ثوب الأخبار وشكلها. وهواة يسمون أنفسهم إعلاماً في فوضى الإعلام العربي في السويد. بل وبعضهم يحمل أسماء رنانة مثل مركز للمعلومات، ومنصة للأخبار الرسمية، ومنصة موثوقة، وكلهم الأسرع والأكبر والأخطر.

أخبار تُنقل من وسائل إعلام سويدية أو ناطقة بالعربية ثم يرش عليها “الناشر” بـ”شطارته” بعض “البهارات” ظاناً أنه يجذب القراء، فيرتكب دون أن يدري جرائم صحفية بحق المعلومة وقارئها.

الخطأ من طبيعة البشر. وفي مهنة كالإعلام، يلهث العامل فيها وراء المعلومات الجديدة تحت ضغط الوقت، قد تكثر الأخطاء، خصوصاً مع الاستسهال الذي باتت تفرضه التكنولوجيا بسبب إمكانية تصحيح المعلومة في وقت لاحق. لكن حين تتحول الأخطاء إلى نهج، وحين تضاف إلى المصادر جمل لم تقلها، وحين تُنشر أخبار قديمة على أنها حديثة، وتضخم العناوين بما يغير حقيقة الخبر عن قصد، يتحول هذا إلى نوع من الكذب الطفولي الذي لا يليق بالبالغين، فضلاً عن أنه لا يليق بمن يريدون أن يكونوا صحفيين.

تضيع الكذبات في زحمة المعلومات التي يستقبلها المتلقي يومياً وهو يقلب الأخبار والصور والفيديوهات بإبهامه على الهاتف، غير أن المشكلة تكمن في أن ذلك كله يقدم في النهاية صورة مغلوطة عن الواقع، سلباً أو إيجاباً.

كان لي زملاء صحفيون يستهويهم جمع العثرات التي تقع فيها الصحف، خصوصاً الكبيرة منها. فعلّقوا يوماً على الجدار مانشيتاً لصحيفة بالخط العريض على صدر الصفحة الأولى يقول “اليوم عيد الأضحى المبارك” وكتبوا تحته “معلومة جديدة والله”. فيوم عيد الأضحى معروف على الأقل قبله بـ10 أيام.

أضع لكم هنا بعض الطرائف من صفحات عربية في السويد علها تصبح يوماً من النوارد التي نتذكرها فنضحك بعد أن يتخلق أصحابها بأخلاق المهنة فعلاً. مع الإشارة إلى أن هذا غيض من فيض فقط. ومع حذف اسم الصفحة الناشرة لأن هدفنا الفكرة وليس أصحابها. هذه أخبار تُنشر يومياً، ولا نتحدث هنا عن الكوارث الكبرى، مثل الطفلة المتبناة التي حولوها إلى “مسلمة” لأن اسمها ميريام، أو موافقة السويد على تنظيم بطولة في الجنس، أو غيرها.

طبعاً بغض النظر عن موقف أوكيسون من اللاجئين فإنه لم يقل “حتى إخراج آخر لاجئ من السويد”. تلك بهارات فاسدة من الناشر
طبعاً العنوان غير صحيح فالخبر يتحدث عن مجموع الجرائم التي تشمل القتل وسواها، لكن ذلك قد يكون خطأ في فهم المضمون
بالتأكيد فإن نصف الأدوية ليس مفقوداً في السويد. الخبر يتحدث عن زيادة في عدد الأدوية التي نفدت من الصيدليات بنسبة 50 بالمئة، وشتان بين الاثنتين
الخبر نُشر منذ أيام فقط ووضعت صورة للخبر على التلفزيون السويدي لتأكيد أنه من مصدر حقيقي، لكن ناشر الخبر لم يذكر أن خبر التلفزيون كان في يوليو من العام 2022، أي قبل عام من الآن
طبعاً المتحدثة لم تأت على ذكر اسم قطر إطلاقاً ولم تقل “لسنا في قطر لرمي أموالنا”. هذه بهارات فاسدة من الناشر

طبعاً أوكيسون لم يقل إن النجاح مضمون وإلا لاتهمه كل السياسيين في السويد بالغباء. هذه بهارات فاسدة من الناشر
“مئات التقارير”، ودعوات للمواجهة، طبعاً هذا من ضرورات الأكشن فقط
العائلة لن تتفرق بل صدر قرار بترحيل جميع أفرادها. وفي القصة الإنسانية للعائلة وحدها ما يثير القارئ دون الحاجة إلى بهارات فاسدة

تلك أمثلة نأمل أن تصبح من الماضي، وأن تكون هناك يوماً منافسة حقيقية بين “وسائل إعلام” ناطقة بالعربية، منافسة قائمة على أخلاق المهنة وقواعدها وليس على الكذب والإصرار عليه، فذلك لمصلحة الجمهور أولاً، ومصلحة الإعلام المحترم عموماً ثانياً.

مهند أبو زيتون

Alkompis Communication AB 559169-6140 © 2024.