ساقت الأقدار كما يبدو، شخصاً من بيئة المليشيات العراقية، إلى السويد، ليصبح خلال أقل من سنتين محور نشرات الأخبار ومقالات الرأي والنقاشات السياسية والقانونية في البلاد، ويثير بالتالي كثيراً من الكراهية والتساؤل حول السويد في أنحاء من العالم.
هذا الشخص، الحاصل على إقامة مؤقتة، والذي لم يمر على وجوده هنا أكثر من سنتين، جاهل حتماً بالسويد وبقيمها وبقوانينها وأعرافها. الجرأة والاندفاع وربما كثرة الفراغ وقلة العمل دفعته نحو القيام بمغامرة حرق نسخ من المصاحف، مغامرة راقت له وللبعض من حوله أولاً، لكنها راقت أكثر لمن اكتشف حجم التراكم الكبير من تناقضات، كان لابد أن تظهر وتبان في هذا الوقت الذي تمر به السويد والمجتمع السويدي، إن كان ذلك بفضل موميكا أو غيره، ليتحول هذا الموميكا من مجرد شخص لا يفقه، كما يبدو، لما يقوم به، فهو أشعل عود ثقاب بنسخة من المصحف، ليحدث حريقاً كبيراً، ويشكل حالة استقطاب ساخنة، أي أن الشخص تحول إلى ظاهرة، كان لا بد من الاستثمار بها.
الخطورة هي أننا الآن أمام حالة استقطاب غير مسبوقة في المجتمع السويدي، هناك من يعمل بإصرار على تغيير القيم السويدية، وذلك من قبل تيارين، حسب ما هو ملاحظ، جهة ممثلة باليمين المتطرف الذي يسعى جاهداً إلى هدم قيم التعددية الثقافية والتسامح والمساواة، واستبدالها بمجتمع قائم على أحادية الثقافة، ورفض الثقافات الأخرى التي يعتبرها هذا التيار خطراً على السويد، تماما كما كانت النازية تعتبر الأعراق والأجناس الأخرى خطراً على العرق الآري. الآن كلمة “عرق” ولتفادي الاتهام بوصمة العنصرية، استبدلت بـ “الثقافة”.
هذا التيار الذي يجد مؤيدين جدد له، من بين الفئات السويدية محدودة الدخل والضعيفة في المجتمع، استفاد ويستفيد من تعثر اندماج بعض المهاجرين، ومن فشل الحكومات بالحد من انعزال ضواحي عديدة تسمى في اللغة السويدية تواضعاً بـ “المناطق المعرضة” بدل من “الضواحي المهمشة” التعبير الدارج من الحالة الفرنسية، حيث تعاني هذه المناطق من تصاعد البطالة ومن مستويات الجريمة المرتفعة، ومن تدني مستويات التعليم. إضافة إلى أن السويديين من ذوي الدخل المحدود وبعض المهاجرين القدامى، باتوا ينظرون إلى اللاجئين الجدد وكأنهم منافس لهم على فرص العمل وعلى مميزات الرفاهية الاجتماعية.
هذا التناقض الطارئ على المجتمع السويدي، وبدل أن يتم احتواءه بالتمسك أكثر بالقيم التي تأسست السويد الحديثة عليها، وبالنظر على أن الاندماج هو مسألة وطنية تهم السويد كلها، يجري الآن تغذيته بنشر أفكار وترسيخ مفاهيم توهم الناس بأن أصل المشكلة هي بهذا اللاجئ وبثقافته الغريبة.
الاستقطاب الآخر الذي لا يقل خطورة عن الأول، يجري من تيار يعمل من داخل مجموعات مهاجرة بدعم خفي وعلني أحيانا من الخارج، هدف هذا التيار يلتقي ويتفق مع هدف تيار اليمين المتطرف، وهو زيادة عزلة بعض الفئات عن المجتمع بل وخلق مجتمعات موازية.
لذلك وبدلاً من مساعدة الناس على معرفة مجتمعهم الجديد، تحاول هذه القوى العمل على إحداث شرخ وزيادة الفروقات في المجتمع، مستغلين بذلك بعض هذه التناقضات مثل مفهوم تطبيق قانون الرعاية القسرية للأطفال، ومفهوم حرية التعبير وقوانين قديمة وجديدة تم وضعها لمكافحة ما يسمى بـ “جرائم الشرف”. ونود هنا أن نؤكد على أن هذه القوانين السويدية السارية حاليا وبغض النظر عن مدى إعجابنا بها، فهي قوانين وضعت لكي تناسب عقلية وخصوصية المجتمع السويدي ككل، ولها علاقة وثيقة بتطور مسيرة السويد الديمقراطية تاريخياً.
ومع أن السويد من أكثر الدول في العالم مرونة بتعديل قوانينها وملاءمتها حسب المستجدات الطارئة، إلا أن المطالبة الديمقراطية بتعديل أي قانون شيء، ومعاداة هذا القانون والتصدي له ورفضه شيء آخر تماماً.
إذاً موميكا وكما قلنا كان السبب المباشر بتحريك رماد بركان من التناقضات التي تعيشها السويد الآن، وهو طبعا أسخف من أن يكون له دور مدروس فيها، مع أنه هو أيضا يقوم باستقطاب خطير، من خلال ظهوره المربح له على وسائل التواصل، عندما يستهدف بخطابه الأقليات في مجتمعات الدول العربية ويدعي أنها تقف معه، وكأنه يقول، أنا هنا في السويد، حضرت وأحضرت معي كل أنواع الكراهية وكل النعرات الطائفية وكل الأمراض والمشاكل الاجتماعية لأنشرها هنا في هذا البلد الديمقراطي، بين ناس هربوا من دولهم، وتحديدا بسبب هذه المشاكل والآفات.
استقطابات أخرى نجدها بين كتاب وصحفيين، ممن وجدوا بعود ثقاب موميكا ما يدعو إلى إشعال نقاشات حامية حول صحة أو خطأ، تحديث قوانين تتعلق بحرية التجمع ومنع استغلالها لهدف إهانة مشاعر الآخرين. عدد من السياسيين المخضرمين منهم كارل بيلدت رئيس الوزراء السابق، وتوماس بودستروم وزير العدل السابق، والكاتبة والمختصة بالأخلاقيات آن هيبرلين، وغيرهم طالبوا بتعديلات تضمن الأخذ بالاعتبار قدسية ما يؤمن به الآخرين، عند الحفاظ على قدسية حرية التعبير. في المقابل نرى اشتداد شراسة المدافعين عن بقاء القوانين كما هي، خاصة وللمفارقة أعضاء من خلفيات شرقية ينتمون إلى حزب ديمقراطيي السويد. اللافت أيضا مقال افتتاحي لجريدة إكسبرسين مساء أمس الخميس دافع عن حرق الكتب المقدسة حتى أمام المساجد، يقول المقال من بين مما يقوله: ” يجب عدم نسيان حقيقة أن المساجد في السويد، ليست مجرد دور للعبادة، بل هي مراكز سياسية ويمكن اعتبارها أيضاً منابر للنفوذ الأجنبي، لأنها مساجد ممولة من دول في الشرق الأوسط”. لكن المقال ينبه أيضا إلى ضرورة التمييز بين حرية التعبير وبين خطر من خرجوا فقط للإساءة للأفراد المسلمين.
وبغض النظر عن نوايا المقال لكن ولولا “ظاهرة موميكا” لما أثار هؤلاء الكتاب وغيرهم موضوع الدين والسياسة. فقد اعتبر المقال أن النظرية الليبرالية، تفصل بين الدين والسياسية، ولكن هذا الفصل من الصعب تطبيقه في الإسلام، لأن الخط الفاصل بين الدين والسياسة غالباً ما يكون غير موجود فيما يتعلق بالإسلام، حسب رأي المقال.
ولكن لعل أكثر ما قد تشهده السويد من خطورة، نتيجة هذه الاستقطابات، هو تحول الخطاب الشعبوي من قبل التيارين، إلى تحريض واضح على أعمال عنف وإرهاب، ولعل في قصة الشاب مرتقى التي نشرتها الكومبس قبل أيام، خير مثالٍ على ذلك. فقد تعرض مرتقى لهجوم بالسيف من قبل جاره السويدي، بعد نقاش بينهما حول موميكا وحرق المصاحف كما قال. قرر في اليوم التالي الشاب السويدي الدفاع عن مقدساته في حرية التعبير بسيف ساموراي طويل انهال به على رأس جاره، ولولا تصدي الشاب العراقي للضربة بيده وتفاديه السقوط، لكن الآن أول ضحايا الاستقطاب حول “ظاهرة موميكا”.
لعل الأقدار هي التي ساقت هذا الشخص، كما قلنا، لكي يشعل هذا الصراع، ويزيل الغبار عن تراكم تناقضات موجودة فعلا بالمجتمع، لكن هو بالنهاية صراع، سينتصر به من يستطيع استخدام أدوات القانون والديمقراطية بصور أفضل ولا ننسى بالطبع أهمية الاستعانة بدعم الإعلام وكتائب السوشيال ميديا ووسائل التأثير على الرأي العام.