لا يمكن التمييز بين مأساة وأخرى، بغض النظر عن مكان وهوية ومسببات معاناة البشر، من المهم دائماً أن نذكر بأن جزءاً كبيراً من عملنا كصحافة يتعلق بنقل وتصوير ما يتعرض له الناس المدنيون من أهوال ومصائب جراء الحروب والنزعات. ولأننا صحيفة سويدية ناطقة بالعربية من الطبيعي أن نهتم بالمجموعة التي نستهدفها في السويد، هذه المجموعة والتي هي بالدرجة الأولى مجموعة لغوية تضم أناساً مختلفين بالآراء والتوجهات وحتى بالجنسيات والأديان والمعتقدات، لديها قاسم مشترك آخر غير اللغة العربية الواحدة، قاسم العيش المشترك في السويد، ومن المفترض أنها جزء من المجتمع السويدي وتنتمي له.
ليس من السهل في هذه الحالة أن ترضي الجميع في هذه المجموعة اللغوية، لكن عندما تعرف أنك كصحفي تقوم بواجبك وأنت على دراية كاملة بأنك تقوم بالدرجة الأولى بعمل سامٍ عنوانه الإنسانية، وأنك تحترم عقول الناس الذين تخاطبهم، حتى لو كان ذلك على حساب مشاعر بعض المتعصبين والمتطرفين، عندها قد لا تهتم كثيرا بمن يصر على مهاجمتك لأنه يريد منك أن تكون مثله وتتحدث فقط باسمه.
عند تغطيتنا للحرب على غزة واجهنا انتقادات عدة من أطراف مختلفة، طرف كان يريد منا أن لا نتكلم إطلاقاً عما يجري في غزة، لأن هذا شأن غير سويدي و”أنتم مختصون بعرب السويد”، وكأن السويد ليس فيها فلسطينيون لهم أقارب في غزة والضفة وليست بالتالي لهم مشاعر لا بد أن تنعكس مشاعرهم على طبيعة حياتهم في السويد، إضافة إلى أن هؤلاء كما يبدو غير ملمين بأهمية القضية الفلسطينية دولياً، وأن التعامل مع الشأن الفلسطيني يحدد جزءاً كبيراً من هوية السياسة الخارجية السويدية. بعض المنتقدين على الطرف الآخر كانوا يريدون من الكومبس أن تتحول إلى صوت إعلامي فلسطيني، مع أننا نؤمن وبشكل راسخ بعدالة القضية الفلسطينية ونعرف ما يعانيه وما عاناه الشعب الفلسطيني منذ النكبة إلى الآن، ولكن هذا التحول سيلغي هويتنا الإعلامية التي تأسسنا على أساسها، وهي أننا قناة سويدية هدفها تسهيل اندماج كل الناطقين بالعربية من خلال تقليل الفجوة المعلوماتية في المجتمع.
المعلومة الموثوقة التي يحتاجها من يريد الاندماج لا تقتصر على المعلومات المجتمعية، بل تشمل أيضاً معلومة ما يجري من حوله، لذلك كنا نحاول تغطية ما تكتبه الصحافة وما يعبر عنه الكتّاب وما يصرح به السياسيون حول الحرب على غزة وعلى لبنان، كما كنا نحرص على تغطية المظاهرات لأننا نريد أن ندفع أكثر الناس إلى الإيمان بالأدوات الديمقراطية للتعبير عن رأيهم. ولكن من أهم ما كنا نركز عليه في هذه المهام وغيرها من المهام الإعلامية والتي نقوم بها، هو تسليط الضوء على معاناة المدنيين.
ما يحدث في سوريا كبير وقد تكون له تداعيات على الشرق الأوسط وربما على العالم، ورسالتنا الإعلامية ستكون هي نفسها، نقل ردود فعل الأوساط السويدية السياسية والإعلامية والتفاعل مع مشاعر السوريين خصوصاً ممن لهم أقارب في مناطق النزاع، ونقل الحراك الحضاري المنظم لمن يريد أن يستخدم الأدوات الديمقراطية للتعبير عن رأيه، بغض النظر عما هو هذا الرأي. من واجبنا أن ننقل الآراء المتعددة بمهنية وأن نركز على معاناة المدنيين من كل الأطراف، فهؤلاء الذين تغيب أصواتهم عادة حين ترتفع أصوات المدافع.
“الديمقراطية ليست لنا والحرية لا تليق بنا!”
للأسف واجهنا هجوماً من قبل بعض المصرين على مقولة: من ليس معنا فهو ضدنا، عندما بدأنا بتغطية التطورات في سوريا، هؤلاء وهم قلة أساؤوا لأنفسهم وللقضايا التي يمثلونها عندما اعتبروا الكومبس منحازة فقط لأنها حيادية، عند كتابة الخبر، ومنفتحة على كل الآراء فيما يتعلق بالمقالات والمقابلات.
البعض كتب: “حررنا حلب سنأتي لنحرر الكومبس”، “يجب إغلاق جميع مكاتب الكومبس في السويد”، “أنا كسوري أقول لكم خليكم بالشأن السويدي والعرب بالسويد ولا تنشروا الأكاذيب على هواكم”، “أنتم بعيدون عن المهنية لأنكم أولاد…كذا وكذا” هذه عينة من بعض تعليقات نزلت على مادة إعلامية في الكومبس عبارة عن تقرير يرصد شهادات من حلب وردود الفعل بين السوريين في السويد على التطورات المتسارعة جداً التي بدأت تقدم فصائل من المعارضة السورية المسلحة في الشمال. بهذه الطريقة أراد البعض التمتع بحرية الرأي والتعبير التي يمنحها لهم فضاء الانترنت في السويد؟
لا نعلم ما المقصود بتحرير الكومبس كما تحررت حلب، لكن من الواضح حجم الكارثة التي يعاني منها البعض في طريقة التعبير عن رأيه في تقييم حيادية أو انحياز تقرير على وسيلة إعلامية سويدية، ولماذا يصل مستوى تفكير شخص يعيش في السويد إلى مستوى تفكير حكومات ودول مثل إسرائيل وبعض الدول العربية حتى يريد أن تغلق السويد مكاتبنا كما أغلقت هذه الدول مكاتب الجزيرة، مع أن الكومبس وحسب القانون السويدي جريدة سويدية محمية بالدستور وملتزمة بأخلاق ومبادئ مهنة الصحافة في السويد.
طبعاً لا يوجد أي شخص من هؤلاء المعلقين أوضح لنا لماذا لم يعجبه التقرير، أو أين كذبنا أو على أي أساس اعتبرنا منحازين ولماذا سيأتون لتحريرنا كما حرروا حلب. على الإطلاق لا يوجد أي تعليق ذكر سبباً لهذه التعليقات التي استخدمت تعابير سوقية وغير لائقة، نحن نكاد نجزم أن أصحاب كل هذه التعليقات المسيئة لم يقرؤوا التقرير الذي انهالوا عليه وعلينا سباً وشتماً وكيل اتهامات.
طبعاً هذا التقرير نموذج لذلك من المهم التطرق له، التقرير حرص على تقديم صورة متوازنة على ردود فعل ما حدث في حلب بين السوريين في السويد خصوصاً من لهم أقارب في حلب، هناك أشخاص عبروا عن سعادتهم بالهجوم وآخرين أبدوا تخوفهم واستياءهم مما حدث، الزملاء اختاروا عنواناَ إخبارياَ صرفاً وهو: شهادات من حلب: لا منطقة آمنة في المدينة ونقص هائل بالمواد الأساسية. هذا العنوان فسره المعلقون المسيئين على أنه دعاية ضد المعارضة بعدما استلمت المدينة. الغريب أنه لماذا مثلا لم يتم تفسير ذلك بسبب قصف الطيران الروسي والسوري مثلاً، وهذا ما هو موجود في المقال أيضا؟ أو على الأقل بسبب المعارك والتغييرات المفاجئة؟
كيف يمكن لشخص يقول إنه صاحب قضية عادلة يناضل من أجل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، أن يهاجم وسيلة إعلامية لأنها اتبعت خطاً متوازناً وفسحت المجال لعدة آراء في التعبير عن واقع موجود على الأرض؟ وهو ما يجب أن يكون في كل أداء إعلامي.
كيف يمكن لهؤلاء القول إنهم ضد الديكتاتورية، وهم يعيشون في بلد ديمقراطي ومع ذلك يريدون إسكات صوت وسيلة إعلامية سويدية محايدة؟
وقبل أن نعمم نحن لا نتحدث إلا عن فئة محددة، من المؤكد أنها لا تمثل الشعب السوري بغض النظر إن كان يتعاطف مع المعارضة أو مع النظام، لأن لنا تجارب مماثلة أيضاً مع بعض المتعاطفين مع النظام، بنفس أسلوب محاولة إسكات الصوت.
أسلوب إسكات أي صوت، لا يروق لنا وليس على مزاجنا لأننا نريد من الإعلام أن يكون فقط باتجاه واحد وأن يكون نسخة عن تفكيرنا ومواقفنا، أسلوب يستخدم فقط كتعبير عن العجز.
العاجز هو من لا يستطيع النقاش والحوار وطرح الاستفسارات والتساؤلات بطريقة حضارية دون استخدام كلمات وتعابير غير لائقة، العجز هو حين نعيش في بلد ديمقراطي ولا نستطيع أن نأخذه منه سوى ما يناسبنا ونرفض ما لا يروق لنا، العجز هو أن لا نستوعب معنى الحرية ومعنى حرية التعبير، ونصر على خطاب الكراهية وإلغاء الآخر، هذا هو العجز بعينة.
كل شيء يبدأ بالمعرفة والإدراك وإن كان أصحاب التعليقات المسيئة لا يستطيعون قراء ما يعلقون عليه فهذه مصيبة، والمصيبة الأكبر عندما تدخل على حسابات بعضهم فتراهم إما طلاب جامعة أو أصحاب شهادات أو في وظائف حساسة، وهذا دليل قاطع على أن المعرفة والإدراك لا يتحققان دائماً بالشهادات العلمية والجامعية. .
نحن لا نتفق مع مقولة أن “الديمقراطية ليست لنا والحرية لا تليق بنا” كما يحاول البعض تفسير ما يفعله ويمارسه من هربوا من القمع في بلادهم ويريدون ممارسة القمع نفسه على الآخرين في السويد.
محمود آغا