في السويد حكومة بلا فقرات

: 12/15/23, 3:48 PM
Updated: 2/6/24, 12:54 PM
في السويد حكومة بلا فقرات

قد لا تكون تصريحات وزير الخارجية السويدي توبياس بيلستروم عن عدم عدالة وقف إطلاق النار ودعم استمرار القصف والهجوم على غزة، آتية من فراغ، أو تعبر فقط عما تفكر به الحكومة، صحيح أن الوزير يمثل توجهات حكومة يمينية مدعومة من اليمين المتطرف، وصحيح أن هناك أصوات عدة تخالف الخط الحكومي بما يتعلق بالحرب على غزة، إلا أن المجتمع السويدي وبسبب التأثير السلبي للإعلام عليه، يتحمل جزءاً كبيراً من وصمة العار التي تلحق بالسويد وسمعتها، جراء هذا الموقف الرخو والقريب من المواقف الانتهازية وحتى الظالمة خاصة عند الحديث عن عدالة الاستمرار بالقتل والدمار، كل ذلك وفق ما رصدناه من مقالات جريئة صدرت بالفترة الأخيرة.

في إحدى المناسبات ومع زيادة شراسة الهجوم الإسرائيلي على المدنيين في غزة، قالت لي إحدى الصحفيات السويديات من أصول لاتينية تعمل في صحافة الخدمة العامة السويدية، إنها تخشى الحديث مع زملائها عن رأيها الصريح بما يجري في القطاع، حتى وهي تتكلم معي خفضت صوتها كي لا يسمعها أحد، قلت لها هل فعلاً نحن نعيش في السويد؟ هل وصلت الأمور إلى حد أن يخفض الصحفي صوته ولا يستطيع أن يدلي برأيه؟

نعم كان ذلك مع بداية هجوم حماس التي تصنفها السويد ودول أخرى منظمة إرهابية، لذلك ليس هناك أي حجة لانتقاد إسرائيل، لأنها “دولة ديمقراطية وحضارية” تدافع عن نفسها من “هجمات بربرية ووحشية”، هذه الصورة بقيت هي السائدة ضمن أي قصة صحفية أو تغطية إعلامية لما يحدث في غزة، رغم شدة قسوة الصور والتقارير وتصريحات دولية وأوروبية وحتى إسرائيلية تصف ما يحدث في القطاع بأنه “إبادة جماعية”.

الإعلام السويدي الحذر والمتوازن واللطيف بقي لفترة طويلة ملتزم بلوازم تكرر نفسها ولم نشهد ولفترة طويلة أي تقارير أو مقالات أو تغطيات تتناسب مع حجم ما يحدث من مجازر بحق المدنيين.

الشيء نفسه حدث أو لا يزال يحدث عند تغطية الحرب الروسية على أوكرانيا، التزمت كل الصحف تقريباً بموقف واحد وهو ضرورة دعم أوكرانيا إعلامياً لكي تنتصر على العدو الروسي للسويد.

هذا التحشيد الإعلامي الذي يذكرنا بإعلام حكومات الحرب في الدول الديكتاتورية، لم يضر فقط بسمعة الصحافة السويدية، بل أضر أيضاً بالمجتمع السويدي ككل عندما أخفى أجزاء مهمة من حقيقة ما يجري على الأرض بين أوكرانيا وروسيا.

لا أحد يمكن أن يخفي الخطر الروسي على السويد، ولا أحد يمكن أن يتجاهل تداعيات الهجوم العسكري الروسي على دولة مستقلة بحجة تأمين الفضاء الروسي الاستراتيجي، لأن هذا المنطق يمكن وبسهولة أن تعيد روسيا استخدامه ضد جيرانها في بحر البلطيق وحتى ضد السويد، لكن هذا لا يعني أن تضلل الناس وتخفي عنهم الحقيقة.

هناك ملايين من النازحين الأوكرانيين داخل بلدهم بدون أي بنى تحتية أو مقومات للحياة الإنسانية، ومع ذلك لم نشاهد أي قصة تتحدث عن معاناتهم، لم نسمع أو نشاهد إلى الآن أي تقرير مهني وصادق في وسائل الإعلام السويدية عن الخسائر الأوكرانية، فيما نرى مثل هذه القصص المهنية والصادقة في وسائل إعلام حكومية أوكرانية، كل ذلك من أجل ألا تؤثر هذه القصص الإنسانية على معنويات السويديين ووقف دعمهم للحرب.

إذا وللأسف لم يقم الإعلام السويدي أو جزء كبير منه بدوره في إعلام الناس وإخبارهم عن الحقائق، لا في الحرب الروسية على أوكرانيا ولا في الحرب الإسرائيلية على غزة، وكأن الإيديولوجيا هي التي تتحكم في مفاصل العديد من وسائل الإعلام.

لكن للإنصاف يجب أن نقول إن الصورة الآن بدأت تتغير ولو بنسب بسيطة. وذلك بفضل أقلام شجاعة عديدة بدأت تكسر حاجز الصمت. بما يخص الحرب الروسية الأوكرانية كتبت الكاتبة السويدية
Therese Larsson Hultin مقالاً قبل أيام في صحيفة سفينسكا داغبلادت تحت عنوان: لا يمكن لأوكرانيا أن تربح هذه الحرب أوضحت فيه بعض الحقائق التي كانت شبه مغيبة عن الإعلام السويدي لفترة طويلة من خلال تحليلات لخبير أمريكي يدعى تشارلز كوبشان، ظل يكرر بأنه “من المستحيل أن تفوز أوكرانيا بالحرب ـ وعلى هذا، يتعين على كييف أن تدرك أن الوقت قد حان للتفكير من جديد”. الكاتبة ذكّرت بمواقف الخبير الأمريكي من استراتيجية الحرب التي تنتهجها أوكرانيا والتي يعتبرها الخبير غير ناجحة، بعد فشل الهجوم الصيفي، واستيلاء روسيا خلال هذا العام على مساحة أكبر من الأراضي التي استعادها الأوكرانيون، كما ذكر بأن روسيا حولت اقتصادها إلى اقتصاد حرب مع التركيز الكامل على إنتاج الأسلحة، في حين أنها لا تعاني بشكل كبير من العقوبات الغربية. كل ذلك في حين تقلص الاقتصاد الأوكراني بمقدار الثلث وتحولت أجزاء من البلاد إلى أنقاض. طبعاً هذه الآراء تتناقض مع مواقف الخبراء السويديين، الذين يعتقد عدد منهم بأنه طالما روسيا لم تسيطر إلى الآن على كامل أوكرانيا فهذا يعني أن حكومة كييف لم تفشل.

هذا التحليل يذكرنا بدعايات سابقة لأنظمة العربية كانت تكرره عند كل حرب تخسرها، حيث تدعي أنه طالما الإمبريالية لم تستطع إسقاط النظام أو إزاحة الرئيس فالمنتصر هو النظام ورئيسه.

كما يجب الإشارة إلى تغريدات جريئة للصحفية Jenny Nordberg تنتقد فيها الصحافة السويدية التي كانت متخلفة عن الصحافة الناطقة بالإنجليزية وحتى الأوكرانية في متابعة الحرب الروسية، هذه الصحافة تنوعت واحتوت أفكاراً وآراء مختلفة، تعكس حقيقة أنه ليس من الصحيح أن كل شيء يسير دائماً كما هو مأمول في الحرب مع روسيا. وأضافت هذه الصحفية في تغريدة أخرى: إذا كان هناك “عملية نفوذ خطيرة” في السويد، فإنها تأتي إلى حد كبير من السويديين أنفسهم الذين يعتقدون بأنه ينبغي نقل رسالة واحدة فقط، وهي أن أوكرانيا سوف تنتصر، قريباً.

أما فيما يخص الحرب على غزة فقد بدأنا نشاهد عدة مقالات مغايرة لما كان سائداً أوائل الحرب، ولا يسعنا هنا إلا الإشارة إلى مقال كتبته الصحفية السويدية الشابة Zina Al-Dewany في مسائية أفتونبلادت عندما انتقدت ليس فقط وزير الخارجية السويدية بل السويد ككل، قائلة: “كنا لا نزال نحن في السويد نحك رأسنا ونفكر فيما إذا نستطيع أن نوصف ما يحدق في غزة بالإبادة الجماعية أم لا، بينما حتى تصريحات إسرائيلية معارضة كانت تؤكد على ذلك”.

وقالت زينة الديواني” النقاش السويدي في بعض الأحيان غريب تماماً، هل المطلوب هو آلاف الأطفال القتلى ولفهم بالأكفان البيضاء قبل أن يبدأ الجمهور في الاستيقاظ. “الخبراء” يحكون رؤوسهم ويتساءلون عما إذا كان يمكن تصنيف ما يحدث على أنه إبادة الجماعية أو تطهير عرقي”. وتستعرض بعض التصريحات العالمي كنوع من الرد، حيث يقول مدير السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي أن الوضع “كارثي، ومروع” وأن الدمار “أكبر” بشكل نسبي مما حدث في ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية. وتركز على هذه الجملة: “حرمت إسرائيل بشكل غير قانوني 2.3 مليون شخص في غزة من مقومات الحياة وحتى الطعام لأكثر من تسعة أسابيع. وفقاً للأمم المتحدة، نصفهم يتضورون جوعا الآن”.

وتضيف: “تسعة أسابيع من النقاش في السويد حول ما إذا كان يحق للفلسطينيين الحصول على مساعدة إنسانية أم لا. تسعة أسابيع من المظاهرات السلمية التي وصفت من قبل بعض اليمين في السويد على أنها نوع من الرومانسية الإرهابية. حتى في أوساط اليسار السويدي، وعلى مدى تسعة أسابيع كان هناك تردد فيما إذا كان من الصواب إظهار الدعم للفلسطينيين أم لا”.

الكاتبة عنونت مقالها بأنه ليس فقط وزير الخارجية بيلستروم بدون فقرات أو أنه من الرخويات، رداً أو تكملة لمقال مشابه في قوته وانتقاده للحكومة كتبه الكاتب أمات ليفين بعنوان لدينا الآن أكثر حكومة من الرخويات في تاريخ السويد الحديث.

لا نعتقد بأنه يجب شرح ما الذي يعنيه مصطلح الرخويات ryggradslösa في لغة السياسة، فالحكومة الحالية تشرح نفسها، وفق المقالين، حكومة رخوة ومهلهلة لا تثق بنفسها وفوق كل ذلك تحاول ممارسة عدالة غريبة وهي أن الرد الإسرائيلي متوازن في غزة وأن وقف المجازر يعد ظلماً للجزار وليس عدلاً بحق السكين. فهل هناك صحوة في السويد مع ما نشهده من تغيرات في الصحف ووسائل الإعلام؟

محمود آغا

Alkompis Communication AB 559169-6140 © 2024.