يزداد العالم جنوناً. فلاسفة ما بعد الحداثة شككوا طيلة النصف الثاني من القرن الماضي في وجود قيم أخلاقية موضوعية، غير أن ما يجري الآن يشكك في الأساس الذي قامت عليه القيم باعتبارها مناط توافق المجتمعات.

أمريكا ترامب تزاود على السويد في حرية التعبير، تعطيها الدروس علناً، وتستدعي موظفيها الحكوميين لـ”تسمع منهم” الآن، ولتؤنبهم لاحقاً ربما.

السفارة الأمريكية طلبت مقابلة مع خبراء حكوميين لمناقشة وضع حرية التعبير في البلاد. طلب “غير معتاد” لبّته الحكومة وجرى الاجتماع فعلاً في 8 أبريل. مكتب رئاسة الحكومة رفض الإفصاح عن تفاصيل الاجتماع، لكنه أكد أن اللقاء تضمن “مناقشة تنظيم حرية التعبير في السويد”.

الطلب الأمريكي جاء بعد أن بصق نائب الرئيس الامريكي جيه دي فانس في وجه الأوروبيين في مؤتمر ميونخ 14 فبراير الماضي، ووجّه إهانات علنية للسويد، معتبراً أنها مثال على ما وصفه بـ”تراجع القيم الديمقراطية” في أوروبا.​

دي فانس أشار في كلمته أمام المؤتمر إلى القضية التي أُدين فيها سلوان نجم، الذي أسماه “الناشط المسيحي”، بتهمة “الكراهية العنصرية” بعد حرقه نسخاً من المصحف، معتبراً أن هذا يُظهر كيف أن القوانين السويدية، رغم ادعائها حماية حرية التعبير، لا تمنح “تصريحاً لقول أي شيء دون المخاطرة بإهانة المجموعة التي تحمل ذلك الاعتقاد”.

دي فانس اعتبر القضية مثالاً على ما وصفه بـ “التهديدات الداخلية” التي تواجه الديمقراطية الأوروبية، مشيراً إلى أن مثل هذه السياسات “تُقيد حرية التعبير وتُخضعها لمعايير ثقافية أو دينية”.

تصريحات دي فانس أثارت حنقاً أورروبياً واضحاً عبّر عن نفسه في مؤتمر ميونخ نفسه، في حين اختارت حكومة السويد شبه الصمت رسمياً. وبينما كانت وسائل إعلام سويدية تحتفي بـ”شجاعة” زيلينسكي وهو يرد على ترامب إهاناته في قلب البيت الأبيض، اختار أولف كريسترشون ربما الانحناء للعاصفة الترامبية، والانحناء مجدداً للطلب “غير المعتاد” من السفارة الأمريكية.

حرية باتجاه واحد

لا يحتاج المرء إلى كثير حصافة ليعرف أن الدروس التي يحاول دي فانس، وقبله إيلون ماسك، إملاءها على الأوروبيين، تنطلق من نكاية دعائية لا من قيم راسخة.

فحرية سلوان نجم في التعبير عن رأيه بشتم المسلمين بالتأكيد لا تفوق في أهميتهما حرية الجامعات الأمريكية في التعبير عن رأيها.

في الأشهر الأخيرة شنّت إدارة ترامب حملة واسعة ضد عدد من الجامعات الأمريكية، متهمةً إياها بالتساهل مع معاداة السامية والسماح باحتجاجات مؤيدة للفلسطينيين في أعقاب الحرب على غزة.​ وعمدت الإدارة إلى تجميد أو سحب مليارات الدولارات من التمويل الفيدرالي لعدة جامعات بارزة، منها هارفارد وكولومبيا وبرينستون. كما أمرت بترحيل الطلاب الأجانب المشاركين في احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين. وجرى اعتقال محمود خليل، طالب فلسطيني في جامعة كولومبيا، بينما بدت حرية التعبير والحقوق الدستورية في مهب الريح.

لا بأس في الدفاع عن حرية التعبير وإعطاء السويد دروساً، ما دامت “الحرية” ضد “الثقافة” الوافدة، أما التضامن مع أطفال يُقتلون بوحشية تحت القصف فهو يهدد “القيم الديمقراطية”.

إنه شيء أشبه بالجنون. كأن العالم يجن من رأسه، وفي جو كهذا تصبح القيم ألعوبة يلهو بها الصغار، ورقة قمار يظهرها الكبار متى راق لهم.

من تنازل بنفسه عن قيم السويد التي ألهمت العالم لعقود، لن يضيره أن يتلقى درساً في القيم من دي فانس، أو من موظف في السفارة الأمريكية، فهل تستعيد السويد صوتها في العالم أما أنها بُحّت إلى الأبد؟

مهند أبو زيتون