منذ الزواج الكاثوليكي بين الموبايل والإنترنت في العام 2007 تغير العالم، أصبح كله بين أيدينا أو هكذا ظننا. تحققت نظرية ماكلوهان فأصبحت “الوسيلة هي الرسالة” وتحول العالم “قرية صغيرة”.

وفي حين بدا أننا ندخل عصر التواصل الاجتماعي دخلنا في الحقيقة عصر العزلة الاجتماعية. لقد أصبحنا “وحدنا معاً” حسب مقولة الفيلسوفة الأمريكية شيري توركل. فنحن “متصلون دائماً، لكننا أكثر وحدة من أي وقت مضى”.

أصبح الاتصال تعبيراً عن وجودنا. غيابنا عن الفيسبوك أو الانستغرام، ولاحقاً التيك توك، يعني غياب وجودنا حرفياً. وكثيراً ما يباغتنا السؤال بعد غياب عن وسائل الإعلام الاجتماعي “أينك؟ هل أنت موجود؟”. ويخفي السؤال سؤالاً أشد وقعاً: “هل ما زلت حياً؟”.

وفي حين ظننا أن “وسائل التواصل” الجديدة تقربنا من بعضنا، انفجرت الكراهيات. وأصبح المستخدمون يغسلون وجوههم كل صباح بألوان مختلفة من الكراهية، من اليمين المتطرف إلى التدين المتطرف، إلى كل أشكال العنصرية والطائفية.

يكاد لا يمر خبر عن مناسبة دينية على صفحات الكومبس دون أن تبدأ “حرب كلامية” في التعليقات، يستل المتحاربون فيها سيوفاً من شتائم يوجهونها إلى صدور أتباع الدين أو الطائفة الأخرى. لا لإثبات أن عقيدتهم على حق بل لتسفيه عقائد الآخرين في حرب عبثية تتكرر منذ سنوات ويخوض فيها متحدثون “جلاوزة” على وسائل التواصل، متحدّين حقيقة أن الاختلاف سنة كونية وأن توحد البشر على عقيدة أو فكر ضرب من الجنون.

لا بأس من الجنون ما دام ابن الحرية التي منحتها لنا وسائل التواصل، أو هكذا ظننا. غير أننا في الحقيقة تحولنا إلى أسرى خوارزميات تحكمنا وتجعلنا ندور في دوائر مع من يشبهوننا. فلا نرى إلا ما ترينه الخوارزميات.

وبينما أوهمتنا وسائل التواصل بأننا قبضنا أخيراً على الحقيقة مع “المواطن الصحفي” خلاصاً من إعلام الديكتاتوريات، تدفقت الأكاذيب والمعلومات المضللة التي أصبحت السلطة الأولى لا الرابعة. وازدهرت الجيوش الإلكترونية التي تخلق مزيداً من دوامات الصمت وتسكت المختلفين في الرأي. وكان طبيعياً والحال هذه أن تزيد الديكتاتوريات في العالم وتتراجع الديمقراطية، إلى درجة أن الديمقراطية الليبرالية أصبحت مهددة فعلاً، حسب ما يذهب إليه الكاتب السويدي بيتر كادهامار في مقاله “هواتفنا الذكية تهدد الديمقراطية”.

تأثير الحشد

ليس هذا مقالاً في ذم وسائل التواصل وزمانها وقد أشرف ربما على الأفول مع دخول عصر الذكاء الاصطناعي الذي لا نعرف بعد إلى أي مدى سيتغير التواصل في عهده. بل هو محاولة قراءة في أوهام “التواصل” والكراهيات التي تنتشر من خلاله، دون أن يغيب عن الأذهان الإيجابيات الهائلة التي حققتها هذه الوسائل، والضغط الذي ينجح المستخدمون في خلقه أحياناً بخصوص قضايا عادلة.

في مباريات كرة القدم ووسط الحشود يميل الناس للتصرف بطريقة عدوانية لا تشبههم، إنه تأثير الحشد الذي شرحه غوستاف لوبون في “سيكولوجيا الجماهير” مبكراً. وتبدو بعض “الحفلات” على منشورات التواصل هذه الأيام نوعاً من الحشد الذي يدفع المستخدمين وراء الشاشات للتصرف بطريقة لا تشبههم ربما. فهل حان وقت التفكير ولو قليلاً بما نصنعه بأنفسنا على وسائل التواصل كمجموعات مهاجرة، أم أنه الجنون الذي لا يجدي معه عقل؟

مهند أبو زيتون