رحلة حب

: 10/21/16, 8:35 AM
Updated: 10/21/16, 8:35 AM

الكومبس – ثقافة: رحلة حب..قصة قصيرة من تأليف ميس بازرباشي لزوجة محبة حالمة ومتفائلة خاضت تجربة الهجرة والسفر..قراءة ممتعة تتمناها لكم الكومبس..

اليوم.. لم يكن عادياً على الإطلاق.. رغم زرقة السماء.. وسطوع الشمس.. وتفتح أزهار الربيع ..الا أنه بالنسبة لي لم يكن عادياً على الإطلاق.. فاليوم قررت وبعد تفكير طويل أن اتوقف عن إضافة قطعة ً من السكر لكوب قهوتي.. ربما لأنني كبرت..أو ربما لأنني نضجت وأصبحت جاهزة لتذوق مرارة الحياة..

فأنا وبعد كل هذه العقبات لازلت أتنفس.. وفي جسدي قلب ينبض.. رغم انني ترددت كثيراً قبل أن آخذ هذا القرار.. ترددت أكثر من ذلك اليوم الذي أخبرتني فيه عن فكرة السفر المجنونة.. عندما اضحى حديث السفر يلهج صباح مساء…و يطغى على كلام الحب وشعر الغزل.. ويعلو على اصوات المدافع والقذائف..لم اتردد ابداً عن الموافقة عندما قلت لي:

_ هذه الرحلة ستكون شهر عسلنا الذي طالما حلمنا به..ووعدتك ووعدت نفسي بأن اصطحبك في رحلة تنسينا كل الالم والمصاعب التي حالت بيننا وأعاقت زواجنا..

_شهر عسل!!..

_نعم شهر عسل ..

يالسعادتي….فكم قرأت في الروايات الرومانسية عن هذا الشهر..الذي يسافر فيها العشاق ويجبون العالم..

يركبون البحر…ويعانقون السماء…ويتسامرون في الحدائق والغابات…أه كم حلمت برحلة كهذه..رحلة احلق فيها معك كعصفورين صغيرين يطيران معاً ويحطان على كل غصن يانع..ويزقزقان تحت ظل الاشجار..يرتشفان حبات الندى..ويبنون عشاً صغيراً مليء بالحب ..

حزمت بعض الذكريات القليلة في عشنا الصغير استعداداً لرحلة العمر…ولم انسى صندوقي الموسيقي الصغير..الذي اهديتني اياه في اول لقاء لنا..

لم انظر خلفي…ولم اودع ذكرياتي وطفولتي كما يجب…فسحر كلامك وجمال وصفك يشدني…فمن ذا الذي يلقى بالاً لهذه التفاصيل الصغيرة وهو مقبلٌ على جنان النعيم..والى سعادة لا تفنى…

بضع كلمات هنا..وبعض النظرات هناك..وقبلة على وجنتي امي الدامعة…لا اعرف لماذا تبكي….لماذا تبكي كل الأمهات ؟؟..فأمي تبكي دوماً…عند تخرجي من الجامعة..وفي ليلة زفافي..وفي كل منعطف هامٍ في حياتي تبكي..على الارجح هذه دموع الفرح.. أو هكذا كنت أحسب..أو أريد أن أقنع نفسي بذلك ..

لا اعلم ماذا يحل بي عندما أستحضر تلك اللحظات و ذاك الوداع..أجد نفسي ودموعي تختلط بكوب قهوتي..فأهرع الى علبة السكر لاعدل طعم الكوب المالح…

_لا..

لقد اتخذت قراري..لاسكر بعد اليوم..هذه هي الحياة..يجب علي تقبلها كماهي..لا ..لن اضعف..

لماذا كل هذا التخبط و التردد الآن ..لقد مر بي ماهو اسوأ من ذلك..

فهذا الموقف لن يكون أكثر صعوبة من لحظة وضع قدمي على ذلك القارب المطاطي الصغير ..الذي يعج بالوجوه الخائفة..والاجساد الطرية..والارواح البريئة..والذي لم يكن كما وعدتني..لكنك شرحت لي آنذاك عن الباخرة الضخمة الراسية في عرض البحر..و علينا الذهاب اليها بهذا القارب..

لم أكن خائفةً آنذاك مثلهم..فأنا معك..اتشبث بذراعك..اضع راسي بين قدمي كلما ارتفعت اصوات الأطفال وعلا صراخهم..ادندن في نفسي أنغام صندوقي الخشبي الصغير..وأستحضر السعادة التي تنتظرنا..أتخيل تلك الباخرة الفخمة..وانا وانت نقف على سطحها..تماماً كالافلام التي نشاهدها على التلفاز..نتنفس عبق البحر..ونتنغم بأصوات طيور النورس الحائمة حولنا…

واذا علت الاصوات أكثر..اتذكر لقاءنا الاول..وعينيك الدافئتين..التي تأسراني وتحلق بي الى عالمٍ إمن..

رذاذ البحر ذكرني بقطرات المطر المتساقط علينا في تلك الليلة الخريفية الساحرة..عندما التقت أعيننا لأول مرة..والذي كان الشرارة الأولى لحبنا الدافئ..

ضمتك لي في عرض البحر شبيهةً بحرارة ضمتك الاولى لي..والتي جعلت روحي تتعلق بروحك وتحلق معها عالياً..

عشت لحظات طويلة في عالمي الخاص..منفصلةً تماماً عن كل مايدور حولي..حتى انني لم أنتبه لجموع الناس الغارقة..ولم اكترث بحالة الهلع والرعب التي كنا فيها آنذاك..فأنا في الماء وفقدت الإحساس بكل جسدي..إلا قلبي ..فنبضات حبك انقذتني..وكانت سترة النجاة..وطوق الخلاص…لا اتذكر كثيرا عدد الساعات التي قضيناها ونحن ننتظر فرق الانقاذ…هذا غير مهم..فنحن معاً..وكما تعاهدنا..في السراء والضراء…فكيف لي ان استمتع باللحظات السعيدة دون التعرض لبعض العقبات هنا وهناك..هذا ليس مهماً على الاطلاق ..فالحياة امامنا..والجنة بإنتظارنا…وحبك يكفيني…

_الحمد لله ..لقد وصلنا..لقد نجونا ….

ايقظتني هذه الكلمات من غيبوبتي..واعادتني من عالم السحر والعشق الى ارض الواقع..فالناس لم تنفك عن الصراخ والتصفيق ابتهالاً وابتهاجاً بوصولنا الى الشاطئ …نعم لقد وصلنا..تنفسنا الصعداء..وتبادلنا مع من حولنا عبارات السلامة والاطمئنان..لكن فرحتنا لم تكتمل ..ف..

2

_الحمد لله ..لقد وصلنا..لقد نجونا ….

ايقظتني هذه الكلمات من غيبوبتي..واعادتني من عالم السحر والعشق الى ارض الواقع..فالناس لم تنفك عن الصراخ والتصفيق ابتهالاً وابتهاجاً بوصولنا الى الشاطئ …نعم لقد وصلنا..تنفسنا الصعداء..وتبادلنا مع من حولنا عبارات السلامة والاطمئنان..لكن فرحتنا لم تكتمل ..فهنا امرأةٌ تبكي وتستنجد باحثةً عن زوجها بين الواصلين….وهناك مجموعة اطفال يقفون حول امهم النائمة…يشدونها ويصرخون عالياً علها تستفيق ..ولكنها تغط في سبات عميق…وهناك عجوز ينتحب ويلطم وجهه..ويتمتم بجمل وعبارات غير مفهومة…والكثير الكثير من النحيب والصراخ..ابتعدت عن هذه الجموع الباكية..وتمسكت بك ..ورسمت ضحكة تسعد وجهك المهموم..

تابعنا الرحلة سيراً على الاقدام…وانا اعبث بمحتويات حقيبتي المبتلة..

_اه..صندوقي ..لقد ابتل ..لكنه لايزال يعمل..حمداً لله..انظر..يا إلهي لقد تبدل لونه ..هذا غير مهم…الاهم ان انغامه لازالت جميلة..

لطالما رافقتني هذه الالحان طوال فترة مسيرنا…

نمشي تارةً..ونرتاح تارةً اخرى…امسك بيدك مرة..وتحملني مرات كثيرة…ننام تحت الأشجار..ونشرب من ماء الينابيع والأنهار..

ذات مرة..تركتني وصندوقي وحيدين..وذهبت مع بعض الجموع للتحدث مع شرطة الحدود ..وانا اراقبك من بعيد تارةً ….وتارةً اخرى افتح صندوقي الثمين واستمع لألحانه الدافئة التي غطت على تلك الاصوات العالية هناك…

_لماذا كل هذا الصراخ؟

_لماذا يصرخ ؟؟..لا ادري…

اه ياصندوقي العزيز…هذه الرحلة طويلةً ومتعبة..لم اتخيلها بهذه المشقة قط..

اغلقت صندوقي بسرعة على وقع اقدامك الراكضة ..وانت تلوح لي بيدك من بعيد..

_هيا…اسرعي قبل ان تأتي الشرطة..

_نعم ..يجب علي الذهاب الآن ..لقد استطاع الناس فتح ثقب صغير من هذا السياج الجارح..

لا افهم لماذا يتفنن البشر في صنع ادوات تفرق بين بني جنسها..فنحن نعيش في عالم واحد..والسياج صُنع لحديقة الحيوان..

وقفنا في الصف الطويل ..والناس من امامنا تتدافع بقوة..تصرخ وتركع وتزحف..وتقذف حقائبها من فوق السور…

ام تحمل رضيعها الصغير..وتضمه الى صدرها ..لتحميه من تلك الاشواك الحادة..يبكي ويصرخ وهي تهدأه وتخفف من روعه وهي دامية الوجه..

شاب يحمل امه العجوز على ظهره..يضعها امام السور ويشرح لها بصوت عالٍ و رفقٍ شديد ما يتوجب عليها فعله..

مجموعة من الشبان الذين يحملون صديقهم المصاب..يضحكون معه ويمازحوه..و يساعدونه على تخطي هذا الحاجز الصعب..

عائلة مكونة من عدد لا نهائي من النساء والاطفال..يصرخون وهم يحملون اطفالهم بأيديهم ويتقاذفوهم فوق السياج وتحته ..

اطفال متعبةٌ..متسخة..خائفة..رثة الثياب..هرمة.. منهكة..خطفت هذه الرحلة الشاقة براءة وجوههم..و سرقت منهم بسمة شفاههم المتجمدة ..

_هيا لقد حان دورنا..انبطحي على الارض ..وازحفي بسرعة وانتبهي من الشوك..وانا سأتبعك..لا تخافي ..انت شجاعة جداً..فالجنة تنتظرنا في الطرف المقابل للسور..ولم يبقى بعد هذا السور اية متاعب..اعدك…هيا…هيا لا تتأخري..

هاتي حقيبتك..سوف اقذفها من فوق السور..

_لا..ليس حقيبتي..سوف تبقى معي..اخاف ان ينكسر الصندوق..لا..

_حسناً .. حسناً ..اهدئي..كما تريدين..

ضممت صندوقي بقوة..كما فعلت تلك الام الدامية مع طفلها..وزحفت ببطء..والناس من خلفي تصرخ وتتطلب مني الإسراع…ولكنني لا استطيع..فالمكان ضيق..والاشواك تقطع خصل شعري الذهبية..اه كم كنت تحب شعري..كم كنت تقول لي بأنه يعكس نور الشمس..ويتتطاير مثل نسمات الصيف العليلة..

لا اعلم بالتحديد عدد الدقائق التي قضيتها زاحفةً بإتجاه الفتحة الشائكة…كل ما اعرفه انه كان طويلٌ جداً..بعدد خصلاتي الذهبية الممزقة ..وبعدد خدوش الاطفال وجراحهم المتألمة ..

ها قد وصلنا..

امسكنا ببعضنا بفرح شديد..وركضنا كالمجنونين في الحقول الخضراء….يا إلهي…شعرت بفرح غامر..وغبطةً شديدة..لم يعكرها إلا صوت اهتزاز قدم صندوقي المنكسرة…

_لا يهم..الأهم أنها لازالت موجودة..سوف أُصلحها عندما نصل…تركت ذاك السور الشائك ورائي..وتركت معه الكثير الكثير من خصل شعري الذهبية..لا يهم سوف تنمو من جديد…الأهم ان البسمة لن تفارق شفاهنا بعد اليوم…

_ها قد بردت القهوة..قبل ان أشربها…و يجب علي اعادة تسخينها..

اتجهت الى مطبخي الصغير..وقررت ان اصنع كوباً جديد..فاليوم هو يوم تاريخي بالنسبة الي ومنعطف هام..اواجهه واعيشه وحدي..بعيداً عن دموع امي الغزيرة..ونظرات زوجي الداعمة..

وضعت الوعاء على النار..وأخذت اراقب فقاعات الماء المتبخرة بتمعن..والتي شكلت غيمةً ملاصقة لغيمة افكاري..

3

_ها قد بردت القهوة..قبل ان أشربها…و يجب علي ان أعيد تسخينها..

اتجهت الى مطبخي الصغير..وقررت ان اصنع كوباً جديد..فاليوم هو يوم تاريخي بالنسبة الي ومنعطف هام..اواجهه واعيشه وحدي..بعيداً عن دموع امي الغزيرة..ونظرات زوجي الداعمة..

وضعت الوعاء على النار..وأخذت اراقب فقاعات الماء المتبخرة..التي شكلت غيمةً ملاصقة لغيمة افكاري..

كم تخيلت وانا في خيمتي الصغيرة في تلك الايام العصيبة التي قضيناها في الغابات ..وكم حلمت بيتنا الجميل على ضفة البحيرة..الذي طالما تخيلته و رسمته وأنا صغيرة..

كوخ صغير..ذو مدخنة دافئة..بحيرة عذبة…يسبح فيها البط والبجع..شجرة بلوط قديمة تنسدل منها اغصانها المتينة أرجوحة خشبية صغيرة يتدافعها اطفالنا بفرح وسرور..نعم اطفالنا..فأنا أحب ان أُنجب اطفال يشبهونك..يركضون ويمرحون هنا وهناك..لتكتمل سعادتي..

لم أتمكن من إحصاء عدد الأيام والأسابيع التي قضيناها في الطرقات وبين الأشجار..ولكنني لا أكترث ..فهو شهر..شهر عسل..من المؤكد أن الناس لم تتطلق عليه هذا الأسم هباءً..

فأنت معي..أنظر الى الحياة من خلالك..واتنفس عبق عشقك..واتنغم بألحان صندوقي المكسور..ندندن معاً..ونركض معاً..ونضحك ونقهقه كثيراً كلما نظرنا الى بعضنا..لكنني لم اتتضايق من ضحكاتك الساخرة..فأنا اعلم انني لم أعد تلك العروس المزينة ..ولكن سخريتك جعلتني اهرع الى صندوقي الصغيرة المركون في زوايا الخيمة المهترئة..

_يا إلهي..!!!…لا…كيف حدث هذا… ومتى ؟…

لقد كُسرت مرآته الصغيرة الى نصفين…مما زاد في جمال هيئتي المتسخة..فلقد بت ارى نفسي مشوهةً ومجزءة..اغلقت الصندوق بحزن بالغ..والقيت نفسي بين ذراعيك باكيةً…

_قل لي اني لازلت جميلة..قل..اريد ان أسمعها منك..

_طبعاً كنت ولازلت وستبقين الفراشة التي تُذهب عني الهم والحزن..لا تأبهي لسخريتي..فأنا لست بأحسن حالً منك..انظري الي اصابع قدمي الخارجة عن الحذاء…انظري..انها تلقي عليك التحية…هيا..أرني إبتسامتك الساحرة…لم يعد أمامنا سوى القليل القليل لنصل ..وستبقى هذه الايام الطويلة ذكرى نضحك عليها ونقصها لاطفالنا في المستقبل…

تناولت كوبي الجديد ..وحاولت ارتشاف بعض القطرات…لكن ..لا.. انها مرة كالعلقم..أمر من أن أستطيع إستيساغها..لابأس ..سوف اضع ملعقة صغيرة جداً من السكر..وسيكون هذا بمثابة تدريج..فأنا لن استطيع تنفيذ قراري كاملاً..يجب علي ان استغني عن السكر رويداً رويداً…

امسكت الملعقة الصغيرة…وبدأت اقلب بين ذرات السكر البلورية الصغيرة..سارحةً بخيالي ومسافرةً الى تلك الايام والليالي العصيبة…اه كم كانت عصيبة..كم مشينا ..كم تعبنا..كم عطشنا..كثيراً ما تملكني في تلك الاوقات الرغبة الجامحة في الصراخ وسط تلك الجموع الحاشدة..أو الصراخ في وسط البحر مع الاجساد الطائفة… او في وجه هؤلاء الآباء الذين حكموا على عوائلهم وأطفالهم بالشقاء..وأذاقوهم مرارة البؤس والتشرد…أو أن أصرخ في وجه رجال الأمن وشرطة الحدود الرافضين فتح البوابات لتلك الأم الدامية مع رضيعها…

نثرت الحبات بعيداً ..ومعها علبة السكر كاملةً…وبدأت بالصراخ تنفيذاً لرغبتي المكبوتة…

_لا…لم تكن نائمة…كفاني تعامياً عن الحقيقة…لقد ماتت غرقاً..لقد حُكم على أطفالها العيش في مستنقع اليتم والتشرد..لن أستطيع النوم بعد الآن..وستتحول وجوههم الباكية الى أشباحٍ تتطاردني كل ليلة ..وتنسج لي كوابيس مخيفة..

_ذاك العجوز ..فقد ابنه الوحيد في البحر..ابنه الذي يدخره للأيام و يتكأ عليه في شيخوخته ..ويتنعم برؤيته كل صباح..عندما كان يحمله على ظهره…في طريق سفرنا الشاق..ابتعلته امواج البحر الهائجة..دون رحمة.. وغيبته في اعماقها المظلمة ..تاركةً العجوز وحيداً..خائر القوى.. دون قبلة وداعٍ..أو حتى شاهدة قبر..

ستبقى تلك المشاهد القاسية تلاحقني مهما حييت..وسيغلب صراخ الاطفال على أنغام صندوقي..اه..صندوقي…تركت كوبي وحيداً…وهرعت إليه وتمسكت به باكيةً..لكنه يهتز…

صندوقي الخشبي الصغير…لم يسلم أيضاً..تلاشت الوانه…و كُسِرت قدمه…وانشطرت مراته الى جزيئات صغيرة…والتي اصبحت تعكس صورة وجهي الهرم .. و روحي المشوهة..حتى ان أنغامه العذبه قد تغيرت..واصبحت لعنة تلاحقني دائماً..وأضحت تذكرني بكل تلك المآسي التي صادفتها في طريق رحلتنا المجنونة..بصرخات الطفال ووجههم المتعبة…بتنهيدات العجائز …بأنين الامهات الثكلى…

نعم لقد وصلت ..وصلت إلى بر الأمان ..وصلت إلى تلك الجنة التي طالما ما وصفتها لي ..وصلت …وصلت جسداً بلا روح… ماضياً بلا مستقبل..شبحاً يهيم في هذه الحياة القاسية..بلا هدف..بلا قلب..بلا مشاعر..بلا رغبةً في العيش..

وصلت بروح ممزقة.. ومستقبل قاتم.. يعد الدقائق ويقّلب الأيام ..دون الإكتراث لتاريخٍ..او انتظار لمجهول..

أصبحت رمادية الروح..ساكنة الحركة..باردة المشاعر..قليلة الكلام..لا أهتم لشيء ..لا ابتسم ولا احزن..ولا اهتم لتقلب الفصول و مرور الاعوام..لا تغمرني أشعة الشمس..ولا تنعشني حبات المطر..ولا تستفزني العواصف العاتية..ولا تحرك الرياح القوية خصل شعري القصير..

كيف يحدث هذا؟..

كيف لبضع أسابيع من عمرنا أن تغير مشاعرنا… فتدمر ارواحنا ..وتزهق أحلامنا..

كيف استطاعت هذه الرحلة المشؤومة هزيمة تفاؤلي الصامد؟..واخماد طاقتي المشتعلة..

فقدت نفسي..وروحي المفعمة بالحياة..وقلبي النابض بالحب والعطاء.. فقدت رغبتي في في تحقيق احلامي…أه..أحلامي..لم أذكر هذه الكلمة منذ زمن…

رفعت صندوقي المهشم من الارض..و نفضت عنه ذرات السكر المتناثرة.. القيت على مرآته نظرة أخيرة.. وغيبت في عتمته ما تبقى من مشاعري وأحلامي.. ونهضت..حاملةً كوبي البارد..في هذه البلاد الباردة..مكملةً ايقاع حياتي الرتيب الأمن..والخالي من كل شيء..

ولكنني ورغم كل ما مر بي من مآسي..لازلت اجلس كل صباح ..أحاول ان أشتم عبق التفاؤل ..وأمسك خيوط الأمل..حاملةً كوبي الدافئ..متأملةً شريط حياتي القصير..الذاخر بالصور والأحداث ..المؤلمة منها والسعيدة.. حتى انني لم أعد أعلم كفة من سترجح في النهاية ؟ ..ولكنني بت على يقين كامل..بأنني لم أعد أحتاج الى السكر…

بقلم ميس بازرباشي

الحقوق محفوظة: عند النقل أو الاستخدام يرجى ذكر المصدر

الكومبس © 2023. All rights reserved