الكومبس – صحافة: اختار كمال أحمد، كبير المحررين الاقتصاديين في محطة تلفزيون «بي بي سي»، لنفسه اسماً جديداً هو «نيل»، وذلك قبل أن يكمل العاشرة من عمره. فرفاقه دائماً ما كانوا يسخرون من اسمه الغريب «كمال» ويطلبون منه «العودة إلى مسقط رأسه» على رغم أنه مولود في لندن.
كانت هذه بريطانيا في سبعينات القرن الـ20، زمن السياسي اليميني إينوك باول الذي حذّر من الهجرات إلى بريطانيا وقتذاك، ملوحاً بـ «أنهار من الدماء». ويعتبره بعضهم اليوم «الأب الروحي» لمشروع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «بريكزيت»، لإحكام سيطرتها على حدودها وقوانينها ووقف الهجرات من أوروبا الشرقية.
يقول كمال أحمد أنه غيّر اسمه إلى اسم إنكليزي لأنه أراد فقط أن يُعترف به كبريطاني والقبول به كواحد من أبناء الشارع، والمنطقة، والبلد.
وفي كتابه «حياة وزمن رجل بريطاني جداً» يسرد أحمد قصته كطفل بريطاني من أب سوداني وأم بريطانية في سبعينات القرن الـ20 وحتى اليوم، متحدّثاً عن أصدقاء مثله غيّروا أسماءهم بحثاً عن القبول والشعور بالاندماج، على غرار صديقه من البنجاب الهندية الذي اختار اسم «توني»، وصديق آخر من تايلاند، استقر على اسم «إيان». وكان منطق الثلاثة الذي تداولوه في ما بينهم هو «كي نكون بريطانيين ولسنا وافدين يمكن أن نُطالب يوماً ما بالعودة إلى مسقط رؤوسنا».
في سبعينات القرن الماضي، دار جدل حقيقي في بريطانيا حول إعادة الآتين من بلدان الكاريبي وآسيا والشرق الأوسط إلى مسقط رؤوسهم مجدداً، بعد أن ساهموا في إعمار بريطانيا في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
وكان الخوف أن يأتي أحد من السلطات ويقول لك «انتهت مدة كونك بريطانياً الآن. لم نعد نحتاج إليك عد إلى بلدك». وهو النداء الذي لطالما ردّ عليه الكوميدي البريطاني من أصول أفريقية ليني هنري، بقوله أنه يتمنى أن يعطيه أحد ألف جنيه استرليني كي يعود إلى بلده، موضحاً: «هذا سيكون أكثر من كافٍ للعودة إلى مدينتي دودلي بالباص». ودودلي هي مدينة صغيرة في مقاطعة وسترشير وسط غرب بريطانيا.
ويقول أحمد أنه خوفاً من دعوته للعودة إلى بلده «فعلت كل ما كان في استطاعتي لأكون بريطانياً أكثر من البريطانيين»، موضحاً كيف نظر إلى قضية العنصرية والاندماج من وجهة نظر «طفل» آنذاك، فالعنصرية ضد الملونين أو المختلطين، كما رأها كانت مثل «حب الشباب، يجب تجاهله وربما سيختفي».
ولم يشعر أحمد بالارتياح في ما يتعلّق بعدم التصادم بين هويته المختلطة وكونه بريطانياً، إلّا بعد انتخاب باراك أوباما الأميركي المختلط العرق رئيساً للولايات المتحدة عام 2009. ويقول: «للمرة الأولى شعرت بالراحة الكافية لوضع علامة (مختلط العرق)».
ولدى بريطانيا، «المتحفظة بطبيعتها»، علاقة أقل صخباً بقضية العرق والهوية والعنصرية من أميركا بكثير. وجانب من هذا يعود إلى أن تاريخ الهجرات إلى بريطانيا ليس قديماً، فأكبر موجة هجرة جاءت خلال أربعينات القرن الـ20 وخمسيناته بعد الحرب العالمية الثانية من أبناء المستعمرات السابقة في أفريقيا وآسيا ودول الكاريبي، من أجل المساعدة في إعادة الأعمار.
لكن مسألة العرق والهوية والعنصرية حاضرة عند التطرّق إلى مشكلات بريطانيا وأزماتها كلها، بدءاً من الجريمة والعصابات المنظّمة والعنف والفقر والتباين الطبقي.
هذا العام تحديداً شمل إحياء ذكرى لحظات أساسية في تاريخ العلاقات العرقية في بريطانيا، من بينها الذكرى السنوية الـ70 لوصول قارب «ويندراش» الذي كان بداية جلب مئات الآلاف من سكان مستعمرات الكومنولث إلى البلاد بعد الحرب العالمية الثانية، والذكرى الـ60 لاضطرابات «نوتينغ هيل» العرقية، والذكرى السنوية الـ50 لخطاب باول المعادي للهجرة «أنهار الدم» الذي انتقد الهجرة الجماعية وأشار إلى السود بطريقة مهينة، والذكرى الـ25 لمقتل المراهق البريطاني ستيفن لورانس طعناً بالسكين في هجوم عنصري.
كما احتفلت بريطانيا هذا العام بالذكرى الـ50 لقانون العلاقات العرقية، الذي جعل من غير القانوني رفض السكن أو العمل أو الخدمات العامة لشخص على أساس اللون أو العرق أو النوع.
لكن، يعاد النظر حالياً بإرث ذلك القانون. فقد جرّم التمييز العنصري، لكنه لم يفتح الطريق أمام المساواة العرقية. وفي رأي بريطانيين كثر أن الطريق لا يزال طويلاً للانتقال إلى تحقيق التكافؤ من حيث المساواة والفرص والحقوق.
وكشف تقرير حول الفجوة في الأجور، طلبه رئيس بلدية لندن صديق خان، أن موظفي المدينة من السود والأقليات العرقية يحصلون على ما يقل بنسبة 37 في المئة في المتوسّط عن نظرائهم من البيض.
وتدرس بريطانيا قانوناً جديداً يجبر أصحاب العمل على الكشف عن الفجوة في الأجور بناء على العرق أو الجنس، وذلك تطبيقاً لمبادرة قدّمتها حكومة رئيسة الوزراء تيريزا ماي لتعزيز المساواة.
وطلبت الحكومة من مؤسساتها، بما في ذلك هيئة الخدمات الصحية الوطنية والقوات المسلحة والمدارس وقوة الشرطة، وضع خطط في شأن سدّ فجوة الأجور وزيادة تمثيل الخلفيات العرقية في المناصب القيادية، بعدما كشف تقرير تلو الآخر أن الأقليات العرقية ليست ممثلة بما يتناسب مع حجمها في مؤسسات حساسة مثل الشرطة والوزارات الحكومية.
وقالت ماي عند إطلاق المبادرة أن كثيرين من أبناء الأقليات «يشعرون بأنهم يصطدمون بجدار عندما يتعلّق الأمر بالتقدّم الوظيفي».
وكانت القيادية البارزة في حزب العمال المعارض هارييت هارمان حذّرت من أنه إذا لم تتخذ ماي أي خطوة ملموسة لتطبيق قانون المساواة الذي أقر خلال حكومة حزب العمال عام 2010، ثم جمّدته حكومة رئيس الوزراء السابق ديفيد كامرون، فإن حديث ماي عن سدّ الفجوة في التباين الاجتماعي والطبقي على أساس اللون يصبح مجرّد «تصريحات انتخابية».
ودواعي القلق كثيرة، فالعنصرية تبدو «مؤسسية» في بريطانيا. فنسبة تمثيل البريطانيين من أصول أفريقية في جهاز الشرطة أقل كثيراً من نسبتهم وسط السكان، بينما نسبتهم في السجون أعلى كثيراً من نسبتهم وسط السكان. كما أن البريطانيين من أصول أفريقية هم الأقل دخلاً بين السكان، والأقل ذهاباً إلى الجامعات والأقل حظوظاً في الترقّي الوظيفي.
كما أن الـ «بريكزيت» أحيا كابوس العنصرية، فنسبة هجمات اليمين المتطرّف ضد الأقليات العرقية والدينية في تزايد، كذلك جرائم الكراهية. وهناك مئات الحكايات عن بريطانيين من أصول أفريقية وكاريبية وآسيوية، وأوربيين يعيشون في بريطانيا منذ عقود وجّه لهم «السؤال القاتل»: متى ستعود إلى بلدك؟
وما عمّق الجدل عن الهوية والعرق والعنصرية في بريطانيا، هو فضيحة «جيل ويندراش» قبل أشهر عدة، عندما كشف عن ترحيل بريطانيين سود رغماً عنهم، أو حرمانهم من الرعاية الصحية والتعليم والمساعدات الاجتماعية، لأنه لم يكن لديهم ما يثبت أنهم بريطانيون قانونياً، على رغم أنهم يعيشون في بريطانيا منذ نحو خمسة عقود.
وسلّطت الفضيحة الضوء على ندرة ما يعرفه الشباب البريطاني اليوم عن دور البريطانيين السود في تاريخ بلدهم المعاصر.
وفي زيارة إلى مدينة بريستول احتفالاً بـ «شهر تاريخ السود» في بريطانيا، قال زعيم حزب العمال جيريمي كوربين أنه «من الأهمية بمكان أن تفهم الأجيال المقبلة الدور الذي لعبه البريطانيون السود في تاريخ بلادنا والنضال من أجل المساواة العرقية». وعلى رغم أن أمام بريطانيا أشواطاً لعلاج مسألة العرق واللون والعنصرية والاندماج والهوية، إلا أن الأجيال الجديدة تشهد أن هناك تقدّماً إلى الأمام.
ففي كتابه، يقول أحمد أنه يقدّم شهادة متفائلة، وليس شهادة عن الظلم أو المعاناة من أجل الشــــعور بالقبــول.
فوفق ما يورد، خطت بريطــــانيا خطوات بعيدة جداً مقـــــارنة بالوضع في السبعينات. لديه ولدان (14 و16 سنة)، ولم يفكّر يوماً في تغيير اسميهما وهذا دليل على التغيير الإيجابي.