ترحيل المهاجرين

اجتماع التهجير السري ـ المتطرفون يبعثرون أوراق المشهد السياسي

: 1/19/24, 7:15 PM
Updated: 1/20/24, 7:03 AM
مشاركة المستشار شولتس ووزير خارجيته بيربوك في مظاهرة مناهضة لليمين المتطرف (بوتسدام 14 يناير 2024)
مشاركة المستشار شولتس ووزير خارجيته بيربوك في مظاهرة مناهضة لليمين المتطرف (بوتسدام 14 يناير 2024)

يعرف المشهد السياسي الألماني جدلا بشأن ما إذا كان يتعين حظر حزب “البديل من أجل ألمانيا” (AfD) بعد اجتماع بوتسدام السري. وقد أدت الأحداث المحيطة بهذا الاجتماع لتفاعلات، سواء في الصحافة الألمانية أو بين الأحزاب السياسية.

عاد موضوع خطر اليمين المتشدد في ألمانيا إلى الواجهة بعد الكشف عن عقد لقاء سري بين قادة من حزب “البديل من أجل ألمانيا”الشعبوي مع متطرفين يمينيين في مدينة بوتسدام شرقي البلاد. لقاء حضرته شخصيات يمينية متطرفة من بينها النمساوي مارتن سيلنر، الذي تزعم على مدار فترة طويلة حركة الهوية الاشتراكية الأوروبية المتطرفة، التي تعارض بشدة هجرة المسلمين إلى أوروبا. ويبدو أن الاجتماع دعا إلى إعادة المهاجرين إلى بلادهم. وقيل أيضا إن المشاركين ناقشوا استراتيجيات وتوجهات الحزب وربما آفاق اتخاذه لمواقف أكثر تطرفاً. وأثيرت كذلك مخاوف من أن يتبنى هذا التنظيم الحزبي الممثل في البرلمان الألماني وجهات نظر أكثر تشددا، الأمر الذي قد يؤدي إلى عواقب سياسية خطيرة. تلك القضية أثارت سيلا من ردود الفعل السياسية والإعلامية في ألمانيا وأوروبا، ومن بينها دعوات لحل “حزب البديل”.

وتميزت تعليقات الصحافة الألمانية بالتنوع في وجهات النظر، من حيث أفضل السبل لمواجهة المد اليميني المتشدد. ففيما حذر البعض من الاستنتاجات المتسرعة بشأن الدعوات إلى حظر حزب “البديل” وما قد يكون لذلك من عواقب غير محسوبة، انتقد البعض الآخر الطبيعة الغامضة لاجتماع بوتسدام وانعدام الشفافية عند “حزب البديل” والمخاطر التي قد يشكلها ذلك على مستقبل البلاد. وهكذا حشد المجتمع المدني الألماني كما الأحزاب السياسية جهدا غير مألوف للتنديد بما بات يسمى بـ”اجتماع بوتسدام السري”.

وبهذا الصدد، كتب موقع “ميركور دي.إي” البافاري (17 يناير/ كانون الثاني 2024): “هناك قطاعات واسعة من المجتمع الألماني بدأت تستيقظ الآن، وتنزل إلى الشوارع ضد حزب “البديل من أجل ألمانيا” وتدين عنصريته وأوهام التطهير الوطني. يجب تشجيع الأحزاب التقليدية، ليس على الحظر، الذي من شأنه تحويل “حزب البديل” من مرتكب جريمة إلى شهيد، بل عليها كشف قناع هذا الحزب، الذي أثبت أنه ينتهك الدستور جزئياً”.

شولتس: شاركت بنفسي في المظاهرات

وبهذا الشأن أعرب المستشار الألماني أولاف شولتس (17 يناير/ كانون الثاني) عن امتنانه للمتظاهرين “ضد العنصرية وخطاب الكراهية ومن أجل ديمقراطيتنا الحرة”. وكتب في منشور على موقع “اكس” للتواصل الاجتماعي “هذا أمر مشجع ويظهر أننا الديمقراطيين، عددنا كبير- أكبر كثيرا من أولئك الذين يريدون الانقسام”.

وبعد أن أقر البرلمان الألماني قانون تجنيس الأجانب الجديد في ألمانيا الجمعة 19 يناير/ كانون الثاني، عاد شولتس مجددا إلى موقع “إكس” مرحبا بالقرار وأهمية تجنيس الأجانب الذين يعيشون في ألمانيا منذ سنوات ويقومون على خدمتها، وتحدث هذه المرة في رسالة فيديو، مذكرا بأنه “من كولن إلى درسدن ومن توبينغن إلى كيل يخرج مئات الآلاف في ألمانيا إلى الشوارع من أجل إظهار تأييدهم علنا للديمقراطية ورفض التطرف اليميني. وأنا أيضا كنت معهم في مسيرة في محل سكني في بوتسدام”. وأضاف شولتس: “أقولها بكل صراحة وحزم: المتطرفون اليمينيّون يهاجمون ديمقراطيتنا. إنهم يريدون هدم ترابطنا، ففي مؤتمر سري تشاور هؤلاء المتطرفون عن الكيفية التي يمكنهم بها طرد ملايين الناس من بلدنا…”.

قلق الأطياف السياسية من احتمال تطرف “البديل”

اجتماع بوتسدام السري ناقش مشروع إعادة المهاجرين إلى أوطانهم الأصلية، بمن فيهم أولئك الذين يحملون الجنسية الألمانية. وأجمعت الأحزاب السياسية عن قلقها بشأن احتمالات ازدياد تطرف حزب “البديل”، غير أنها عبرت عن مواقف متباينة فيما يتعلق بحظر هذا التنظيم السياسي. فقد أعرب التكتل المسيحي المعارض (الحزب الديمقراطي المسيحي والحزب الاجتماعي المسيحي) عن قلقه بشأن معضلة “البديل” وشدد على أهمية حماية القيم الديمقراطية. وذهب الحزب الاشتراكي الديمقراطي (قائد الإتلاف الحكومي) في نفس الاتجاه، في حين أشار الحزب الديمقراطي الحر (المشارك في الحكومة) إلى أهمية حماية حرية التعبير لكنه حذر في الوقت نفسه من النزعات المتطرفة. وكان حزب الخضر واليسار أكثر ميلاً إلى دعم خيار حظر “البديل”، وأكد الاثنان أن الحزب اليميني يشكل تهديدًا للديمقراطية ويعمل على زرع الانقسامات في المجتمع. غير أن “البديل” رفض هذه الاتهامات وشدد على التزامه بالقواعد الديموقراطية.

وفي سياق متصل، حذرت وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر من التهاون بشأن هذه القضية. أما روبرت هابيك، نائب المستشار الألماني والرئيس المشارك لحزب الخضر، فأوضح في مقابلة مع مجلة شتيرن (17 يناير/ كانون الثاني)، قال فيها إن أعضاء حزب “البديل” مستبدون ويشكلون تهديدا بالنسبة للنظام الديمقراطي في البلاد. وأضاف هابيك موضحا أنّ “المستبدين اليمينيين يهاجمون جوهر الجمهورية… إنهم يريدون تحويل ألمانيا إلى دولة مثل روسيا”. غير أن صحيفة “ليدوف نوفيني” التشيكية المحافظة (16 يناير/ كانون الثاني) كتبت محذرة: “المشكلة هي أنه حتى الأشياء العقلانية التي يطرحها “حزب البديل” تم وصفها بأنها فاشية. فهل يجب حظر هذا الحزب بموجب القانون؟ وهل ستقدم الأحزاب التقليدية أخيراً برنامجاً مضاداً حقيقياً لخطط الحكومة؟ يعكس نجاح “حزب البديل” وضعا لا يملك فيه الناخبون خيارا آخر. وكما قال (الكاتب الروسي) غوغول: «لا ينبغي للمرء أن يوبخ المرآة إذا أظهرت وجهاً معوجاً».

المد اليميني المتشدد في ألمانيا وأوروبا

أظهرت استطلاعات رأي حديثة زيادة في شعبية حزب “البديل”، خاصة في المناطق الشرقية “الشيوعية السابقة” من ألمانيا، حيث يقول مراقبون إنه قد يفوز بالانتخابات في الولايات الشرقية التي تنتخب برلماناتها هذا العام. ونشر الحزب على موقعه بالانترنت صورا وتعريفا مختصرا لـ 35 مرشحا لخوض انتخابات البرلمان الأوروبي، التي تعقد في التاسع من يونيو/ حزيران هذا العام في كل الولايات الألمانية. وينخرط هذا التوجه في سياق مد يميني متشدد يشمل كامل أوروبا والدول الغربية عموما. فبعد أربع سنوات من حكم ترامب، أثبتت المؤسسات الديموقراطية في الولايات المتحدة الأمريكية أنها قادرة على تحمل صدمة محاولة انقلاب من قبل رئيس خاسر للانتخابات. غير أن أربع سنوات من حكم خلفه جو بايدن، أظهرت أن هذه المؤسسات ليست بالضرورة في وضع يسمح لها بمنع عودة ترامب إلى البيت الأبيض. وبهذا الصدد كتبت صحيفة “دي ستاندارد” البلجيكية (17 يناير/ كانون الثاني): “لا يمكن للديمقراطية الليبرالية أن تضمن عدم وصول حزب غير ليبرالي إلى السلطة. لقد تم انتخاب فيكتور أوربان، وقام بتفكيك الصحافة الحرة وقوض القضاء المستقل وقلص الحريات وهو الآن في مسار تصادمي مع أوروبا، وحقق انتصارا ساحقا في عام 2022”.

وتشكل سياسات الهجرة إحدى القضايا الأساسية التي تقوم عليها برامج الأحزاب اليمينية الشعبوية سواء في ألمانيا أو في أوروبا. وقد بدأت الأحزاب التقليدية، بمن فيها اليسارية، بتشديد مواقفها تجاه هذه القضية الحساسة، كما ظهر مؤخرا في مصادقة البرلمان الأوروبي على إصلاح كبير لسياسة الهجرة بعد مفاوضات طويلة وشاقة دامت أكثر من ثلاث سنوات وذلك بالتوصل لما بات يسمى بـ”ميثاق الهجرة واللجوء”، الذي ينص على تعزيز المراقبة على المهاجرين القادمين إلى أوروبا وإنشاء مراكز قرب الحدود لإعادة أولئك الذين لا يحق لهم اللجوء إلى الاتحاد الأوروبي بسرعة أكبر.

وعلى نفس المنوال، صادق البرلمان الألماني (18 يناير/ كانون الثاني) على اجراءات لتشديد سياسة الهجرة، بعدما زاد عدد طالبي اللجوء لأكثر من 50% في ألمانيا العام الماضي، إلى جانب استقبال مليون لاجئ أوكراني، وقالت وزيرة الداخلية نانسي فيزر بهذا الصدد إن مشروع القانون الرامي إلى “الترحيل بسرعة وفعالية أكبر (..) سنحرص على أن يرغم الأشخاص الذين لا يحق لهم البقاء في بلادنا على مغادرتها بسرعة أكبر”، وذلك لضمان القبول المجتمعي ومحاولة سحب البساط من تحت أقدام “حزب البديل”.

فكرة الحظر بين القبول والتحفظ

يخضع حزب “البديل من أجل ألمانيا” عمليا للمراقبة من قبل وكالة الاستخبارات الداخلية الألمانية (مكتب حماية الدستور)، وتقول وزيرة الداخلية نانسي فيزر إن ذلك يجب أن يستمر. وقالت في حوار مع مجلة شتيرن (17 يناير/ كانون الثاني): “نرى مجددا، أنه من الضروري والمهم بالنسبة لمكتب حماية الدستور أن يراقب عن كثب الدوائر اليمينية المتطرفة. أعداء الدستور يتواصلون مع ممثلي حزب “البديل” ويتم نشر أيديولوجيات غير إنسانية. لا ينبغي لأحد أن يقلل من شأن هذا الخطر”.

ومن جهته شكك وزير العدل الألماني ماركو بوشمان في جدوى فكرة حظر محتمل لحزب “البديل” في تصريحات لصحيفة “فيلت آم زونتاغ” الألمانية (14 يناير/ كانون الثاني) وقال إن “المحكمة الدستورية الاتحادية صَعَّبَتْ بشدة من العقبات الموضوعة أمام فرض حظر أي حزب”. وأضاف بوشمان أنه إذا كان هناك سعي لمباشرة هذا الإجراء، فعلى المرء أن يكون “متأكدا بنسبة 100% من نجاح الأمر” وتابع محذرا “إذا فشل مثل هذا الإجراء أمام المحكمة الدستورية، فإن ذلك سيكون بمثابة انتصار هائل لحزب البديل على الصعيد العام”.

صحيفة الغارديان اللندنية (16 يناير/ كانون الثاني) كتبت بدورها بشأن خيار حظر “البديل” فقالت: “بالنظر للعقبات القانونية الكبيرة، قد يكون من الصعب للغاية تحقيق هذا الهدف، بل قد يؤدي ذلك لنتائج عكسية، قد تعزز وضع هذا الحزب المناهض للمؤسسات، في وقت يتمتع فيه بالفعل بزخم سياسي كبير. ومع ذلك، لا ينبغي استبعاد هذا الخيار، وقد يعمل على حشد العناصر الأكثر اعتدالاً في الحزب (…) ولا بد من هزيمته في معركة من أجل كسب القلوب والعقول. وكما كتبت المؤرخة الألمانية البريطانية كاتيا هوير، فقد أصبح حزب “البديل” “صماماً” شعبوياً لشعور واسع بالأزمة. وسوف تتطلب معالجة هذه الأزمة قدراً أعظم من الطموح والخيال من جانب الطبقة السياسية التي تبدو في بعض الأحيان عازمة على التشبث بالمعتقدات الاقتصادية القديمة”.

ألمانيا والخوف من عودة كابوس النازية؟

يظل التهديد الذي يشكله التطرف اليميني في ألمانيا وأوروبا تحدياً مستمراً للاستقرار السياسي والوئام الاجتماعي. فعلى الرغم من الجهود المكثفة لمكافحته في فترة ما بعد الحرب، استمر التطرف اليميني في فرض نفسه في ألمانيا. في العقود الأخيرة، نجحت الجماعات والأحزاب اليمينية المتطرفة في اكتساب زخم سياسي متعاظم. ويعود التطرف اليميني لأسباب متعددة، منها انعدام الأمن الاجتماعي والاقتصادي وفقدان الهوية والمخاوف من التغيير الاجتماعي.

ويظهر الفحص النقدي للماضي أن الأيديولوجيات اليمينية المتطرفة غالبا ما تكتسب نفوذا في أوقات عدم الاستقرار السياسي والأزمات الاقتصادية. لقد ترك التاريخ الألماني منذ عام 1933، والذي تميز بصعود الإيديولوجيا النازية، ندوباً عميقة في الذاكرة الجماعية في أوروبا والعالم.

إن جرائم المحرقةوالفظائع التي ارتكبت في الحرب العالمية الثانية تقف بمثابة تذكير بمخاطر التطرف اليميني. فبعد عام 1945، سعت ألمانيا إلى ترسيخ ديمقراطية جديدة، ولكن تبين أن هذه المعركة عملية تستلزم نفسا طويلا. موقع “تاغسشاو دي.إي” التابع للقناة الألمانية الأولى (ARD) (17 يناير/ كانون الثاني) كتبت معلقة إن “وجهات النظر اليمينية المتطرفة المناهضة للدستور متجذرة في أجزاء من المجتمع الألماني. لقد أدت إلى الحكم النازي والحرب العالمية والمحرقة ولا تزال تتفاقم حتى اليوم باعتبارها مواقف استبدادية يمينية. ولا يمكن ببساطة حظر هذه المواقف العميقة الجذور، بل يجب معالجتها على المدى الطويل”.

حسن زنيند

ينشر بالتعاون بين مؤسسة الكومبس الإعلامية و DW

Alkompis Communication AB 559169-6140 © 2024.