الدستور الأردنية: غرف أخبار .. أم غرف عمليات؟

: 7/24/12, 3:45 AM
Updated: 7/24/12, 3:45 AM
الدستور الأردنية: غرف أخبار .. أم غرف عمليات؟

أكثر من نصف ما يجري على الأرض السورية من أحداث ومواجهات، ينتمي إلى العالم “الافتراضي”…هذه الحقيقة تتأكد كل يوم…تتابع بعض فضائيات “الناقل الرسمي للحدث” فتحسب أن القيامة قد قامت الآن، أو بعد قليل، تهرع إلى مصادرك، تستل أرقام الأصدقاء القدامى والجدد، الذين صادف أن كثيرين منهم منتشرون في عدد من النقاط الساخنة، تكتشف أن الأمر ليس كذلك، وأن “المواطن الصحفي” مدرب على الكذب والصراخ واستدرار العطف

أكثر من نصف ما يجري على الأرض السورية من أحداث ومواجهات، ينتمي إلى العالم “الافتراضي”…هذه الحقيقة تتأكد كل يوم…تتابع بعض فضائيات “الناقل الرسمي للحدث” فتحسب أن القيامة قد قامت الآن، أو بعد قليل، تهرع إلى مصادرك، تستل أرقام الأصدقاء القدامى والجدد، الذين صادف أن كثيرين منهم منتشرون في عدد من النقاط الساخنة، تكتشف أن الأمر ليس كذلك، وأن “المواطن الصحفي” مدرب على الكذب والصراخ واستدرار العطف، وأحياناً تكتشف أن الحدث مختلق بكامله…تذهب إلى مصادر وتقارير أكثر رزانة، فتكتشف أنك لست أمام إعلام مهني، بل أمام “بروباغندا” من الطراز الرديء، حيث يتماهى الكذب بالحقيقة، الخبر بالتعليق، والمعلومة بوجهة النظر، ودائما باتجاه واحد.

حتى الان تبدو الصورة مُحتملة، لكن ما هو غير محتمل، هو أن تكتشف بقليل من العناء، أن لا جدار يفصل غرفة الأخبار عن غرفة العمليات، وأن رئيس التحرير هو ذاته، رئيس الأركان، المعركة واحدة على الأرض وفي الفضاء، وغالباً ما تكون معارك الفضاء أشد ضراوة واحتداماً من المعارك على الأرض…غالباً ما يكون تأثيرها أشد وقعاً وتأثيراً، لا على البسطاء من الناس فحسب، بل وعلى القوات والمقاتلين والقيادات السياسية والعسكرية والصحافة والمحللين والحقوقيين والناشطين.

لم تعد وظيفة “الفضاء” تغطية الحدث ومتابعته أو حتى استشرافه، بعد أن تماهت مهمته مع مهمة صنع الحدث…لقد بات جزءاً من ماكينة صنع الحدث، لذا صار يتعين عليه أن يكون حاضراً بمندوبيه ومحرريه في غرفة العمليات، حتى يحضّر أدواته وكاميراته ومراسليه مسبقاً…هو يعرف بما سيحصل في كثير من الأحيان والوقائع، وهو أنجز للتو “وظيفته المنزلية”، أعد تقاريره ومتابعاته مسبقاً، كل شيء جاهز للحظة الانقضاض الكبير، كل الإمكانيات المسخرة لخدمة أهداف غرفة العمليات…لقد صار “الفضاء” ملحقاً بدوائر الاستخبارات ووزارات الخارجية في الدول التي تمتلك الفضاء وتتحكم به وتسيطر على موجاته وتردداته.

قديما كانت المعارك تُحسم من “الجو”، في إشارة للأدوار المتزايدة لسلاح الطيران في المعارك التقليدية…حرب حزيران 67 مثلاً، حسمت من الجو قبل أن تندلع على الأرض…اليوم يبدو أن الحروب باتت تحسم من الفضاء، من دون إطلاق طلقة واحدة أو صاروخ واحد…ومن منّا يستطيع أن ينكر أو يتنكر لحقيقة أن “الفضاء” أصبح في السنوات العشر الأخيرة، طليعة صدامية مقاتلة في كثيرٍ من أحداث الربيع العربي، ومن قبلها في حروب ومواجهات خاضها العرب ضد أعدائهم أو فيما بينهم؟ ليس المهم أن يكون “الفضاء” مهنياً، المهنية أولى ضحايا “حروب الفضاء”…المهم أن يكون مقتدراً…قادراً على استدعاء جيوش الاحتياط من الصور الأرشيفية وتقارير “المواطنين – الصحفيين” والمحللين والمفكرين والشيوخ “غبَ الطلب”…عندها يمكن للفضاء أن يكذب ويكذب حتى يصدقه الناس، بل وحتى يصدق نفسه…وسيحل الكذب محل الحقيقة وسيكون له مفعولها، خصوصاً حين يكون الخصم ضعيفاً في “الفضاء” أو أن يُسقَطَ عن الفضاء بقرار من هيئة الأركان وغرفة العمليات ذاتها.

في ليبيا كانت الخديعة الأولى…قدم “الفضاء” الشعب الليبي بوصفه مجاميع قبلية موزعة ما بين الإخوان المسلمين والسلفيين…لم يسارونا الشك في أن ليبيا ستسبق مصر وتونس لجهة تأمين غالبية كاسحة للتيار الديني…لنكتشف في أول انتخابات تجري على الأرض، أن الفضاء كان يكذب، وأنه نجح في صياغة تقديراتنا وتوجيه عقولنا والتحكم بتوقعاتنا…. لكن حبل الكذب قصير مهما طال واستطال، فأنت تستطيع أن تكذب على كل الناس بعض الوقت، أو على بعض الناس كل الوقت، لكنك لا تستطيع أن تكذب على كل الناس كل الوقت…وهذا ما تكشّفت عنه التجربة الليبية.

في سوريا، يتفوق “الفضاء” على نفسه…يتخلى عن مهنته ويتحول إلى طراز “غوبلزي” من “البروباغندا”…يدخل الحرب قاتلاً أو مقتولا…ينافح عن مالكيه وداعميه وأجنداتهم وتحالفاتهم وضغائنهم وحساباتهم الكبير منها والصغير…سوريا هي الامتحان الذي يكرم فيه المرء أو يهان، و”الفضاء” أهين في سوريا لأنه استهان بعقولنا واستخف بذكائنا، وهيهات أن يعود “الفضاء” لسابق مجده في النفوذ والتأثير.

أمس، كانت إحدى الفضائيات تبث صوراً لما قيل أنها مجازر تعرض لها مسلمو بورما، تلك المجازر التي ملأت الفضاء الرقمي والافتراضي، مشفوعة بصيحات “الله أكبر” و”وا معتصماه” شبيهة بتلك التي نسمعها في مطلع كل تقرير وخاتمته، من تلك التقارير التي راجت في الأزمة السورية…ليتبين أن كثيرا من الصور تعود لمجازر أمريكية في فيتنام في أواسط ستينيات القرن الفائت، أو لأكداس من الجثث جمعها رهبان بوذيون لضحايا الزلازل والفيضانات، هكذا وبكل صفاقة أو وجل.

أعادتني تلك الصور لعشرات الصور التي بُثّت من القابون والطائرات الروسية العامودية المتساقطة فوق رؤوس السكان، التي ثبت أنها روسية ولكن أسقطت في أفغانستان، زمن الاجتياح السوفياتي لها…وغيرها من فيض الأكاذيب والفبركات.

في بورما، ثمة مجازر تقارف بحق المسلمين، كافية لاستدعاء كل أشكال التدخل والدعم والإسناد، من دون كذب أو تزوير أو تلفيق…في سوريا قارف النظام ما يندى له الجبين من مجازر تكفي لاستدرار كل أشكال الدعم والتعاطف والإسناد من دون أن تكون الحقيقة والمهنة والموضعية في صدارة ضحايا الحرب الدائرة هناك…في ليبيا يحتل الإسلاميون بأجنحتهم المختلفة، مكانة في الخريطة السياسية الليبية دونما حاجة لاستغبائنا بتظهير دور لا يمتلكونه ولا يتوفرون عليه….آن الأوان لوقف هذه المسرحية المملة…آن الأوان لأن يعود “الفضاء” إلى مهمته ووظيفته في نقل الحقيقة، كما هي ومن دون زيادة أو نقصان، آن الأوان لتفعيل المبدأ الناظم لحرية الأرض والفضاء: حقنا في أن نعرف، وفي أن تُحترم عقولنا…آن الأوان لوقف العبث السياسي/ الأمني بالإعلام والفضاء.

عريب الرنتاوي

المقالات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي موقع الكومبس

التاريخ : 21-07-2

Alkompis Communication AB 559169-6140 © 2024.