الرّاية: ” حكاية قبل النوم “

: 1/24/17, 10:13 AM
Updated: 1/24/17, 10:13 AM
الرّاية: ” حكاية قبل النوم “

ثقافة: أصبح وحيداً في مدينته… فقد غادرها آخر الناجين من الزلزال العظيم منذ أيام قليلة.

ذات ليلة قرّر أن يخترع رايةً ليرفعها على السارية كل صباح .. فرح كثيرا بهذه الفكرة ، ناقش الموضوع مع نفسه وأثنى عليه كثيرا، ثم صافح يده موافقا ومؤيدا، ولكن .. كانت هناك مشكلة، ما هي المواد التي سيصنع منها هذه الرّاية ؟ ما شكلها؟ ما ألوانها ؟؟

أخذ يفكر مطولاً.. ليلاً نهاراً .. كان الموضوع يملأ ساعاته الفارغة، وصل بعد جهد جهيد إلى الحلّ المناسب، ناقش الفكرة مع نفسه وأثنى عليها كثيرا .. ثم صافح يده موافقا ومؤيدا.

في الصباح .. بدأ برفع راية المدينة الجديدة بعد أن ثبّتها جيدا على حبل السارية .. وأخذ يقلد صوت البوق بفمه معلناً موعد الإجتماع الصباحي مع نفسه تحت ظلّ الرّاية الجديدة .

نظر إليها وهي ترفرف أعلى السارية بإعجاب شديد .. كان سعيدا, برغم الوحل الذي غطى جسده, والأوساخ التي أخفت ملامح وجهه, وأسنانه الصفراء التي أطلّت علينا بابتسامته البلهاء.

كان يرفع الرّاية في الصباح .. وينكّسها في المساء, مرّت الأيام .. ومازال صديقنا على هذه الحال .. دون أي تقصير, في نفس الموعد صباحاً وفي نفس الموعد مساءً.

بعد عدة سنوات ، مرّ جمع من السيّاح قرب المدينة المنكوبة, أخذوا يلتقطون صورهم التذكارية فوق الخراب كما جرت العادة, وحينما كانوا يتجولون بين حطام المدينة وجدوا مجموعة من العظام البشرية تحت سارية وسط أنقاض مدرسة, التقطوا لكومة العظام هذه صورا كثيرة, لا أدري لماذا !!

المهم .. توجهوا بعدها إلى السارية وما كان معلقا عليها كراية رسميّة للمدينة, استوقفهم مشهد الرّاية كثيرا .. ثم انهالوا عليها بالتصوير .. كانت عدساتهم مصوبة إليها كالمدافع الرشاشة.

نشرت صورة الرّاية في الصحيفة الرسمية لدولتهم, وكان قد كتب أسفل الصورة تعليق بسيط ( هذه الصورة النادرة هي صورة لراية المدينة التي أصابها الزلزال العظيم, ويبدو أنها الوحيدة من نوعها .. و الأخيرة ).

نسيت أن اخبركم عن شكل الرّاية التي اختارها صديقنا, كان قد وجد قطعة من القماش مرميّة بين الخراب والجثث المتعفّنة, أحبّ شكلها وألوانها ثم قرّر أن يتخذها راية لدولته, في البداية حاول صنع رايته من الأكياس العالقة بحطام المباني, لكنّها كانت تصدر أصوات خشخشة مزعجة ذكّرته بسوق الخضار الذي كان يعمل به قبل الزلزال العظيم.

هو لم يعلم أن قطعة القماش التي إختارها هي راية المدينة المنكوبة الحقيقيّة.. نعم .. هو لم يكن يعلم شكل راية مدينته التي كانت ترفرف فوق أسطح المباني الحكومية, حتى عندما كان صغيراً لم يشاهد راية مدينته وهي ترفرف أعلى سارية المدرسة في الاجتماع الصباحي, كان رأسه محنيّاً ..دائماً ينظر للأسفل, يحدّق في حذائه المثقوب ويفكّر .. متى سيشتري حذاءً جديداً.

بلال جركس

Alkompis Communication AB 559169-6140 © 2024.