الكومبس – وكالات: حتى الآن شكلت وزارة الصحة في غزة المصدر الوحيد لأرقام الضحايا بالقطاع. وقد دأبت إسرائيل على رفض هذه الأرقام باعتبارها مبالغًا فيها. غير أن دراسة مستقلة تظهر أن العدد الفعلي قد يكون أعلى بكثير من أرقام وزارة الصحة.

في العادة تتناول الدراسات الأرقام والبيانات، ومناهج البحث العلمية، واستطلاعات الرأي. وينطبق هذا أيضاً على دراسة مستقلة حديثة حول عدد ضحايا حرب غزة، أجراها الباحث ميشائيل سباغات من كلية رويال هولواي بجامعة لندن.

وتشير التقديرات إلى أنه بحلول بداية يناير/كانون الثاني من هذا العام، بلغ عدد القتلى الفلسطينيين في حرب إسرائيل على غزة أكثر من 80 ألف قتيل. لكن هناك أمرٌ مهمٌّ بالنسبة للباحثين في الحروب والصراعات، كما يوضح: “في نهاية المطاف، الأمر يتعلق بتذكر كل ضحية على حدة”. أن تُدوّن أسماء القتلى في قوائم، وهو أمرٌ لا تستطيع القيام به حالياً سوى وزارة الصحة في قطاع غزة. ويرى سباغات أن هذه القوائم تكون “دقيقة إلى حدٍّ كبير”، وذلك على الرغم من أن الوزارة تخضع لسيطرة حماس، المُصنّفة كمنظمة إرهابية من قِبل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ودول أخرى.

تُدرج وزارة الصحة بغزة أسماء القتلى مع أرقام هوياتهم وأعمارهم وجنسهم. وهذا أمرٌ يسهل التحقق منه وقد حدث بالفعل. ففي فبراير / شباط من هذا العام، نشر باحثون دراسةً في مجلة “لانسيت” قارنوا فيها، على سبيل المثال، نعي القتلى على مواقع التواصل الاجتماعي بقوائم وزارة الصحة الفلسطينية، ووجدوا أنه لم تُضاف أسماء إلى قائمة الوزارة في غزة، بل كانت هناك أسماء مفقودة. وخلصوا إلى أن تقديرات وزراة الصحة لأعداد القتلى في غزة قد تكون أقل بكثير من الواقع.

أول مسح مستقل للضحايا في غزة

لأول مرة، أُجريت دراسة مستقلة كلياً عن قوائم وزارة الصحة في غزة. أجرى الباحثون، بقيادة ميشائيل سباغات، مقابلات مع أشخاص حول أفراد متوفين من أسرهم. وتعاون الباحثون الأوروبيون مع زملاء فلسطينيين من المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية (PCPSR). ويُذكر أن هذه المنظمة البحثية المستقلة، برئاسة الباحث في الشؤون السياسية، خليل الشقاقي، ممولة من مؤسسات خاصة ومن قبل الاتحاد الأوروبي. ويقع مقرها في رام الله بالضفة الغربية، وتتكون من فريق عمل ذو خبرة في قطاع غزة. “لم نكن بحاجة إلى السماح لنا بدخول غزة. كنا هناك بالفعل”، يوضح سباغات، في إشارة إلى جمع البيانات في منطقة الحرب والتي بالكاد تسمح الوكالة الإسرائيلية المسؤولة، مكتب تنسيق أعمال الحكومة في المناطق، لأحد بدخولها، باستثناء بعض منظمات الإغاثة. كما منعت إسرائيل دخول الصحفيين الدوليين منذ بدء الحرب. “لحسن الحظ، لم يُقتل أيٌّ من باحثينا الميدانيين حتى الآن. جميع المشاركين في الدراسة على قيد الحياة”.

تحدث الباحثون الميدانيون إلى ألفي أسرة، تمثل سكان غزة قبل الهجوم الإرهابي في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. لم يُسمح لهم بدخول المناطق التي أغلقها الجيش الإسرائيلي كمناطق قتال. وعلى الرغم من نزوح جزء كبير من سكان غزة، تمكن الباحثون من التحدث مع أشخاص ينحدرون من شمال قطاع غزة أو من رفح في أماكن مثل مخيم المواصي.

وفيات بسبب سوء التغذية والأمراض

الدراسة خلصت إلى أن ما بين 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 و5 يناير/كانون الثاني 2025، بلغ عدد وفيات الحرب المباشرة حوالي 75,200، بينما أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية، للفترة نفسها 45,805 قتيلا. لقد أثبت باحثو فريق سباغات والشقاقي أن عدد القتلى الفعلي أعلى بنحو 60 في المائة من العدد الذي أعلنته وزارة الصحة في غزة. هذا يعني أن واحداً من كل 25 شخصاً تقريباً في قطاع غزة، البالغ عدد سكانه 2.3 مليون نسمة، قد قُتل منذ بداية الحرب.

ويُضاف إلى هذا العدد ما يُسمى بـ “وفيات الحرب غير المباشرة”، أي جميع من لقوا حتفهم بسبب سوء التغذية أو الأمراض في ظل ظروف الحرب أو نقص التغذية، مع استثناء عدد الأشخاص الذين كانوا سيموتون بسبب الشيخوخة أو المرض بغض النظر عن وضع الحرب. ويقدر الباحثون عدد وفيات الحرب غير المباشرة بـ 8540 حالة خلال الفترة المعنية.

هذا العدد أقل بكثير مما قدّره المراقبون في السابق. وقد قدرت دراسة نُشرت نتائجها في مجلة “ذا لانسيت” الطبية في يوليو/تموز 2024 أنه مقابل كل حالة وفاة تم إحصاؤها، يجب إضافة أربع وفيات حرب غير مباشرة. وقد حذّرت منظمات الإغاثة منذ أشهر من احتمال وفاة المدنيين في غزة بسبب سوء التغذية والأمراض، وتحدث الكثيرون عن عشرات الآلاف من وفيات الحرب غير المباشرة.

يعزو سباغات انخفاض العدد إلى “تمتع سكان غزة بنسبة شبابٍ وأصحاءٍ عالية إلى حدٍ كبير قبل نشوب الحرب، مع توفر القطاع على نظامٍ صحيٍّ جيدٍ ومعدل تطعيمٍ مرتفع “بفضل الأمم المتحدة والعديد من منظمات الإغاثة”. وهذا العدد لا يعد منخفضاً بأي حالٍ من الأحوال عند مقارنته بمناطق الحروب الأخرى. “تُظهر أرقامنا أن منظمات الإغاثة قد بذلت جهدًا جباراً في الحفاظ على حياة السكان حتى الآن”.

لم تخضع الدراسة بعد لمراجعة مستقلة من قِبل باحثين غير مشاركين، وإلى ذلك الحين تُعتبر بمثابة نسخة أولية. لذلك، لا يمكن اعتبار الأرقام نهائية. إلا أن نتائحها تتوافق مع نتائج دراسة نشرت في مجلة “لانسيت”، والتي راجعت قائمة الأسماء من وزارة الصحة في غزة.

هل يمكن الاستعانة بأرقام حماس؟

باستخدام أساليب مختلفة، ولكن بهدف مماثل، أراد الباحثون بقيادة سباغات والشقاقي تحديد ما إذا كان من الممكن الاستعانة بأرقام وزارة الصحة التي تحصي الوفيات اليومية بقطاع غزة كمرجع موثوق في ظل سيطرة حركة حماس عليها. الدراسة تظهر بوضوح أنهم لا يُبالغون في عدد القتلى. كما تُشير إلى أنهم يُقدمون صورة واقعية عن التركيبة السكانية للضحايا. و”تتوافق نسبة النساء والأطفال وكبار السن التي أحصيناها بشكل وثيق مع الأرقام التي قدمتها وزارة الصحة في غزة”، يقول الباحثون. ووفق النتائج، “كان أكثر من 30 في المائة من القتلى المباشرين أطفالًا دون سن الثامنة عشرة، و22 في المائة نساء، وحوالي 4 في المائة أشخاصاً فوق سن الخامسة والستين. وكان معظم القتلى من الذكور الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و49 عاماً”. فهل يعني ذلك أن المقاتلين كانوا مستهدفين بشكل فعلي؟

مائة ألف قتيل: رقم يصعب تخيّله!

يوضح سباغات: “لا. في الحروب، يُقتل الشباب في أغلب الأحيان”. لا تُميّز الدراسة، كما هو الحال مع وزارة الصحة بغزة، بين المقاتلين والمدنيين. “لكنّا كنا سنُعرّض باحثينا الميدانيين للخطر لو سألوا عمّا إذا كان أفراد حماس يقيمون في المنزل”. ويضيف: “كان من الممكن الاشتباه بهم كعملاء للمخابرات الإسرائيلية. لذلك لم تُجمع هذه البيانات”. يؤكد الباحث: “لدينا عدد كبير للغاية من الأطفال الصغار الذين قُتلوا، وهو أمرٌ استثنائي”. ورغم تردده في عقد مقارنات، إلا أنه يقر في ذات الوقت أنّ “في غزة، قُتل أربعة بالمائة من السكان. لم نشهد مثل هذا في أي حرب أخرى في القرن الحادي والعشرين”.

إذا طبقتَ الأرقام الواردة في دراسة سباغات والشقاقي على يومنا هذا، فتقفز بسرعة إلى مائة ألف قتيل. وهو عدد يصعب تخيّله من الوفيات، تكمن وراءه أسماء وقصص أشخاص. نعرف بعضهم، مثل عائلة النجار. فقد لقى تسعة من أطفالها حتفهم وهم: يحيى، راكان، رسلان، جبران، حواء، ريفان، سيدين، لقمان، وسدرة في غارة جوية إسرائيلية على خان يونس في 23 مايو/ أيار 2025. نجت الأم لأنها كانت طبيبة مناوبة في المستشفى. والناجي الوحيد من الهجوم من بين أبنائها هو ابنها آدم، البالغ من العمر أحد عشر ربيعاً. وتوفي والد الأطفال، الطبيب حمدي النجار، بعد أيام قليلة من الهجوم. وقد انتشرت أسماء القتلى من هذه العائلة حول العالم، وذلك على عكس أسماء معظم القتلى خلال الحرب الدائرة في قطاع غزة.

أعدته إلى العربية: إيمان ملوك

تحرير: و.ب

ينشر بالتعاون بين مؤسسة الكومبس الإعلامية و DW