لا زلت اذكر جيداً أيامي الأولى في السويد.. كانت أياماً صعبة، شعور بالغرابة وخوف من ضيعان تعب السنين. لكنها كانت فترة بسيطة، صحيح أنها مرت بشق الأنفس، لكنها مضت. وبطبيعة الحال فالأمر استلزم جهداً ووقتاً كبيرين”.
في مدينة Skövde تقطن نسرين القادمة وعائلتها من سوريا منذ العام 2015. نسرين التي تحمل درجة الماجستير في القانون الدولي تحمل أيضاً، عدا عن سنين طوال أمضتها في العمل مع مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ذكريات تراها “عصيّة على النسيان” تتعلق بالوطن ماضيه وحاضره. كما أن لها أيضاً رحلة أخرى من الجهد المتواصل لإثبات الذات في الغربة والبلد الجديد السويد.
كافحت جمعة في سبيل الجمع بين العلم والعمل معاً في السويد، حيث شغلت مراكز وظيفية منها مسؤول في قسم الضرائب Skattehandläggare وحالياً تشغل وظيفة مسؤول توظيف Arbetsförmedlare في مكتب العمل. هي أيضاً ترى في نفسها صورة تمثل عشرات القادمين الجدد ممن نجحوا في شق طريقهم إلى سوق العمل السويدي الذي يشغل الأجانب فيه نسبة لا يستهان بها.
الصدمة الأكبر …
في حوارها مع “الكومبس” تتحدث نسرين عن قصتها مع ما تسميها “الأيام الأولى في حكاية اللجوء”. تقول: “مثّلت اللحظات الأولى لوصولي لهذا البلد الصدمة الأكبر كأي شخص ينتقل من وطن ليعيش الغربة مع ما قد تحمله للوهلة الأولى من فرضية خسارة سنوات من التعب أمضاها الإنسان في العلم والعمل. لكن ما أود قوله هنا أنه ثبت لي بعد بضعة أشهر أن كل ذلك كان اعتقاداً خاطئاً من جانبي. بطبيعة الحال كأي لاجىء جديد انتظرت فترة لا بأس بها لكي أتمكن من الدخول لمدرسة sfi.
هنا يمكن القول أنني عشت مشاعر مختلطة من الإحباط والتعب …”.
تضيف “مشوار تعلم اللغة بدأت به فوراً. كان تعب متواصل يوم بيوم. بذات الوقت كان الأمر يتعلق بدراسة المجتمع الجديد، كيف يعمل وكيف يُدار، المعايير الناظمة له، الاختلافات بينه وبين بلدي الأم. كل هذا أيضاً حاولت استغلاله باتجاه هدفي ..”.
منظومة متكاملة ..
وفي الحوار معها كانت نسرين صريحة وواضحة في حديثها عن نظرتها لمفهوم “الاندماج” في البلد المُضيف، والذي اعتبرته مطلوب من طرفين اثنين هما القادمين الجدد والسويديين. تقول بهذا الصدد: “الاندماج برأيي هو بحد ذاته منظومة كاملة وعقد ثنائي المصلحة. هو أشبه بعصا تُحمل من طرفين اثنين وليس من طرف واحد فقط. هناك مفهوم قد يكون سائد وهو فهم الاندماج على أنه يعني أن أكون أنا كأجنبي منسلخ عن ثقافتي. الأمر ليس كذلك. بل معنى الاندماج يكمن في التقارب بين الأجانب والسويديين لخلق جسر تواصل يربط الحضارات المختلفة. قد تكون الخطوة الأولى في هذه المعادلة مطلوبة منا نحن قبل السويديين، لكنها في النهاية مطلوبة من الطرفين معاً”.
ضريبة الغربة ..
بالصراحة ذاتها تتحدث جمعة عن اللحظات العصيبة التي يمر بها عدد كبير من القادمين للسويد، وتقدم بدورها نصيحة لمن هم في طور تكوين الذات والبحث عن فرصة عمل من خلال “أن يكون لديهم دوماً أمل، وأيضاً التحلي بالصبر وبذل الجهد على مستوى اللغة وفهم نظام المجتمع العام”.
تتابع بالقول: “بطبيعة الحال كل شخص سيعاني من لحظات قاسية في حياته. نحن أساساً هنا في غربة والغربة لها ضريبة. لا بديل بدايةً عن الأمل. أقصد هنا أن يكون لدينا إيمان بأننا إذا أردنا شيء يمكن أن نصل إليه بعد اتباع السبل الممكنة. بعد ذلك وهنا كلامي عن السويد والوضع في البلد مطلوب من الشخص إن أراد العمل فهم أن كل شيء يستغرق وقت. الوصول لهدف ما يحتاج تعب ووقت. مثلاً هناك صعوبات تعتري طريق البعض في مسار تعلم اللغة. هنا يمكن دراسة لغة المهنة أو ما يطلق عليه بالسويدي Yrkesspråk. بهذه الحالة يسهل على الشخص ايجاد عمل كونه يستطيع تخطي عقبات اللغة في مكان العمل تحديداً، بعدها يمكن البناء على ما تم تعمله خطوة بخطوة. أخيراً إتقان ومحاولة تعلم أمور أخرى منها مهارات التواصل، دورات تعليمية عن طبيعة المجتمع الجديد، مهارات الحاسب مثلاً وأي تعليم يمكن أن يترك اضافة في سيرة الشخص الذاتية”.
الشهادة الأجنبية وحدها غير كافية ..
أيضاً في سياق الدخول لسوق العمل ترى جمعة أن وجود مؤهل أكاديمي أجنبي لدى القادم الجديد قد يكون غير كافي. وتردف “هناك الكثير من الاختلافات بين أنظمة التعليم والعمل في بلدان الشرق الأوسط عموماً والسويد. العديد منا كأجانب يحمل شهادات علمية من البلد الأم. هذا الأمر بحد ذاته عامل مهم لكنه وحده غير كافي لتأهيلي لدخول سوق العمل السويدي، لكون هذا السوق محكوم بمعايير مختلفة أنا بحاجة لاستدراكها وتحصيلها”.
وفي الحوار -الذي لم يهمل القضايا التي تمس النساء القادمات الجدد للسويد – ترى جمعة في دخول المرأة لسوق العمل “عامل مهم يتعلق بكيان المرأة”. كما لا يمثل الحصول على العمل “حاجة مادية” فقط، بل إنه وفقاً لها أيضاً “وسيلة لصقل شخصية المرأة. أيضاً هو عامل يخلق لديها الثقة بنفسها والاستقلال بمفهومه الإيجابي. العمل جزء من رسالة الإنسان السامية أياً كان رجلاً كان أم امرأة”.
هدف محدد ..
وفي نهاية الحوار معها تتوجه نسرين جمعة بكلمة تختصر خلاصة تجربتها في خمس سنوات من العمل المتواصل بالقول: “كل خطوة جديدة في الحياة تعتريها صعوباتها وعقباتها التي هي بحاجة لجهد متواصل للتغلب عليها. نحن نعيش في غربة وهنا التعب قد يكون ربما مطلوب بشكل أكبر. الدخول لأي مجتمع يبدأ بفهم نظامه العام ولغة التواصل بين أبنائه ومن ثم تهيئة الشخص لنفسه ليكون قادراً على التواصل ضمن المجتمع. أعيد وأكرر الأمل والصبر معادلة ثنائية مهمة ومن بعد ذلك العمل باتجاه هدف. أيضاً غياب الهدف يخلق العشوائية في الحياة وهي نقيض النظام. جميعنا لدينا طاقة وقدرة فقط مطلوب منا استغلالها والعمل على تطويرها”.
أسامة الماضي