المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس
الكومبس – مقالات الرأي: بعيداً عن العواطف المخلصة بشأن (الهوية الوطنية الجامعة في مقابل المخاوف من بروز المزيد من الكيانات القومية)، لم تنشأ كيانات وطنية كبرى في الشرق الأوسط بمحضِ اختيارِ البشر المكونين لهذا النمط من التعايش وإنما كان في أغلب حالاته محض تقسيمٍ فرضه المنتصرونَ في الحروب الكبرى، أو فرضهُ بالحديد والنار ممثلو القومية الكبرى وبطبيعة الحال بصورةٍ مجحفةٍ ومقننةٍ لمصائر الأقوام والشعوب الصغيرة، لم يحدث البتة في منطقة الشرق الأوسط أن استُفتي النَّاسُ على شكلِ الحكمِ أو نمطهِ وأحكامهِ، وإنما فُرض عَلَم القوميةُ الكبرى على أوطانٍ فسيفسائيةٍ بقوةِ السلاحِ وليس عبرَ صناديق الانتخابات، ولم تتوقف هذه العزلة التاريخية عند هذا الحد، وإنما تفنن عساكر وقادة القومية الكبرى في محوٍ ممنهجٍ للملامحِ القوميةِ والثقافيةِ للأقوامِ الأخرى ومعاملة أبناؤها كمواطنين من الدرجة العاشرة وأبقتْ الكثير منهم محرومين حتى من جنسية (وطنٍ) وجدوا أنفسهم يؤدون خدمته العسكرية أسوة بحاملي جنسيته دون أن ينالوا ذات الحقوق كما لرعايا القومية الكبرى. حدث هذا بعد حصول دول منطقة الشرق الأوسط على استقلالها الوطني وتأسُس إداراتها الوطنية. لقد مهرت كل الدول التي استقلّت حديثاً على ميثاق الأمم المتحدة وهي تطلب الانضمام إلى الجمعية العامة، أقرّت حق الشعوب في تقرير مصيرها، وظلت الأنظمة القومية تناصرُ هذا الشعب أو ذاك على كوكبنا وتمدّهُ أحياناً بمستلزمات النضال التحرري سواء بالكلمة أو بالسلاح، متناسيةً أنَّ هناك بين جوانحها أقواماً تئنُّ من هول الإبادة والتذويب القسري والفصل العنصري.
ومن الطبيعي أن تلجأ بعض هذه الأقوام في سعيها لنصرة شعبها والدفاع عنه في وجه الإبادة المنظّمة إلى طلب العون من أي طرفٍ يرغب في ذلك، سواء من أحزاب محلية أو قوى من خارج الحدود، لقد دُفعت هذه الأقوام لطلب العون حتى من إسرائيل وكل ذلك كان يمكن تجنبه لو أن بلدان الشرق الأوسط يحكمها دستور مدني عادل.
والآن وبعد عقودٍ من الذل والقمع والتسلط، وحين تنهضُ قوى وأحزاب لتطالب بحق تقرير المصير لهذه الأقوام توصم وأحياناً من مناضلين وشخصيات تنادي بالديمقراطية، بمختلف التسميات ويتمنى البعض الآخر لو أتيح له وضعاً يُبيد فيه هذه الأقوام كي لا تتجرأ على المطالبه بحقوقها المشروعة. إنها بنظري ازدواجية في المعايير تثير الشفقة لأنها تمنع عن الآخرين ما يناضلون هم من أجله (لأقوامهم)، وكأن كلمة الحق التاريخية ينبغي لها أن تستخدم لصالح طرفٍ دون آخر، أو كأن للحقيقة والعدل وجهان أحدهما لي والآخر للآخرين.
ماذا لو كانت القومية الكبرى قد أرست تجربة ديمقراطية تداولية ودستوراً يجد فيه كل انسان بغض النظرِ عن قوميتهِ ومذهبهِ وعقيدتهِ السياسة وجنسه وعمره، راحةً وأماناً ومساحةً للتعايش والتطور المنسجم مع مبادئ الدستور المدني الذي يحكم الجميع بشكل متكافئ؟ هل كان نزوع هذه الأقوام للاستقلال سيكون ذاته؟ أليس الاتحاد الأوربي الذي يضم اليوم ٢٧ بلداً قام على دول وكيانات سياسية كاملة السيادة ارتأت أن تبدأ بالاتحاد التدريجي القائم على احترام خصوصية الأقوام المنضوية تحت لواء الاتحاد، أكثر رسوخًا وفرصةً للتطورِ من (أوطانٍ يمزقها العنف ويستعبدها الطغاة) كما هو الحال في كل الدول العربية؟
لقد اثبتت عقود ما بعد الاستقلال الوطني أن المشروع القومي لم يكن علاجاً لمشاكل المنطقة، وأن المشروع الماركسي لم يوفر مستلزمات القبول الواسع به، وأن الأنظمة العسكرية تحمل في طياتها مقومات التفسخ والفساد والعنف المفضي إلى الثورة، كما فشل المشروع الإسلاموي في أن يزاوج بين حاجات الروح لكل مواطني (الهوية الوطنية) وأمسى اليوم عقبةً في وجه التطور القائم على العدل لأنه ببساطة شديدة يقدّم المسلمين بشكلٍ سافرٍ على باقي خلق الله.
لم يبق أمامنا إذن سوى أن نذهب للوطن الجامع عبر اتحاد اختياري بين كيانات ذات سيادة تملك أن تضمّن حقوق مواطنيها وشعبها في دستور الاتحاد ذا المرجعية المدنية كما هو الحال في الاتحاد الأوربي، من هنا جاء تأييدي لحق الشعب الكردي في تقرير المصير إسوة بباقي شعوب الأرض والمنطقة، و تحقيقاً منطقياً لحلمٍ مشروع استوفى منذ زمانٍ بعيد شروطه الموضوعية والقانونية وبقي على شركاء الوطن أن يمدّوا أيديهم بالسلام لهذه التطلعات ليتفرغوا جميعاً لبرامج التنمية المتوازنة والمتنوعة لخدمة المنطقة وإبعاد شبح الحروب القومية والطائفية عنها. سلامٌ وتعاونٌ مبنيٌ على الاتحاد الطوعي الذي يغتني بالتنوع العرقي واللغوي وتزينه رايات المحبة وعمل الخير لصالح الأجيال القادمة.
بقلم: عباس الجنابي
المقالات تعبر عن رأي أصحابها وليس بالضرورة أن تتوافق مع رأي الكومبس