المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس
الكومبس – مقالات: كان المستشرق جاك بيرك يحب العرب، وكان يظن ان الوطن العربي هو حوض جغرافي وتاريخي واحد مليء بعناصر الوحدة والتوحد.
وحين زار بغداد في نوفمبر تشرين الثاني عام 1990 كان يقول لنا نحن مجموعة الكتاب والشعراء الذين التقاهم : ” ان عليكم اخراج منطقتكم من الضياع واسمي هذه المرحلة مرحلة غياب الجمر وماعليكم انتم الا ان تزيحوا الرماد حتى تظهر المعجزة “، وكان يقصد بذلك معجزة توحد العرب والمسلمين مع بعضهم. وحين خرجتُ من ذلك اللقاء كنت ارى ان المفكرين والمؤرخين هم ايضا مجموعة من الشعراء .. يتبعهم الغاوون .. يقولون ما لا يفعلون .. في كل وادٍ يهيمون !!
لست يائسا ولاتيئيسيا ولكن واقعيتي التي ادّعي بها تظهر يأسي احيانا برغم ان تفاصيل الحكايات التي اسردها احيانا تحاول ان تبث قوس ضوء من الأمل في عبارة او حدث او رؤيا.
الخمسينية التي مرت بها منطقتنا اثر موجة الإنقلابات الوطنية في البلدان العربية والإسلامية بدءا بثورة عبد الناصر عام 1952 الى ثورة محمد علي جناح في الباكستان وثورة مصدق 1952 في ايران في نفس الفترة الخمسينية من القرن الماضي ولم تؤد ِ تلك الإنقلابات الوطنية خلال الخمسين سنة الماضية الا الى تفجرات ونزاعات داخل تلك الإنقلابات حول القوانين الثورية المزعومة التي يطرحها ضباط ثوريون ليبراليون علمانيون ويرفضها ضباط متدينون محافظون يتحدثون عن الشريعة كمصدر وحيد للقانون والتشريع والسلطة.
ويتحول الجدل لحظتئذ ٍوالنزاع الى نوع من السلطات تحمي الحاكم الفرد الذي خرج من ركام الإنقلاب لينكل بمجموعة رفاقة ويجلس وحيدا على الكرسي. وتهمل اهداف الثورة وحقوق الشعب المزعومة. ثم اثمرت النزاعات داخل الإنقلابات التي اسموها ثورات الى بروز الحكم الفردي وتكريس الدكتاتوريات.
ولأن الدكتاتور ظل يتجلى لخمسين سنة في صورة ملاك مرة اوصورة إله منحوت من حجر او برونز مرة او في صورة شيطان لعين، فقد يئست الشعوب من كل ذلك الهراء الأرضي. ورفعت اعينها نحو السماء مؤمنة بكل سماوي على انه الحل القادم وانه الإصلاح لحال العباد والبلاد. فهاجر من هاجر وبقي من بقي وحمل كل منا عدته الخلافية في الفكر والدين والعقيدة الى اوربا وبقاع العالم.
وعندما سقطت الدكتاتوريات في منطقتنا العربية والإسلامية بفعل الإحتلالات او الثورات وغيرها منذ 2003 حتى 2014 امسكت الأحزاب الدينية بالسلطة ومارست قوة التشريع وصارت تحكم الحياة المعاصرة برؤية التاريخ وعقل الماضي وتقود الناس نحو دولة الخلافة دون سماع رأي الشعوب وارادتها على اساس الشورى بحسب التسمية الدينية او على اساس الديموقراطية بحسب الليبرالية والعلمانية.
وهنا ظهرت نزاعات الطوائف والفرق الدينية وجدل الفكر بين ديني وعلماني في بلداننا ومهاجرنا، الأول يدعي سلطة مقدسة من السماء والثاني يدعي سلطة مدنية من الأرض، ولأن الحروب والتفجرات الداخلية مطلوبة بحسب التاريخ والجغرافية لبلوغ مرحلة الإصلاح الديني والمدني فأن علينا ان ننتظر خمسين سنة اخرى سوف تستغرقها الحروب الطائفية وداخل الأحزاب الدينية لكي يصبح الحوار ممكنا بين الأرضي وبين السماوي وسننتظر كما يبدو خمسينية اخرى على رصيف الشتات..
وحين رحل الى الأبدية الشاعر محمود درويش نقش عبارته: احترف الحزن والإنتظار.. على واجهات بيوتنا ورسائلنا ويوميات وعينا لخمسين سنة قادمة.
فاروق سلّوم