المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس
الكومبس – ثقافة: لا تنفك كلمات ابن أخي، الذي ليس له من العمر إلا اربعة أعوام أن تغادرني، وهو يرفض إعطائي قطعة من لوح الشوكولاتة التي بيده، قائلاً لي من العراق عبر السكايب: ” لا يمكنني ذلك، فأنتِ في السماء”!
أبن أخي مع سنوات عمره الناشئة، يتصور أن وجودي في السويد، وليس في البلد الأم العراق، الذي يعيش فيه هو، يعني أنني معلقة في السماء! لا في الوطن ولا على أرض أخرى، أتحسس فيها موطئ قدمي، حتى أنه وفي بعض المرات عندما يسمع صوت طائرة تمر فوق سطح منزلهم، يبدأ بالبكاء، متصوراً أنني موجودة في تلك الطائرة وأرفض النزول الى بيتهم.
ياله من تفكير طفولي رائع، مجرد من واقعية الحياة بل ربما من مرارتها.
يقول الصغير كلماته وأنا أتحدث معه عبر “السكايب” وينشغل بعدها مع أخته الأصغر سناً وينسى أمر ما قاله لي. لكني لا أنسى.
تبقى كلماته عالقة في ذهني، يرفض عقلي نسيانها كما نفعل مع إرث الذكريات الثقيل. ويرفض أيضاً اعتبارها كلمات عادية صادرة من طفل، تمكن من وصف التشرد الذي يعيشه الإنسان في وقتنا الحالي في ثلاث كلمات فقط.
نحن فعلاً نعيش في السماء، ليس بداخلها، عندها ووفقاً لمخيلة الصغير يعني أننا أموات، بل معلقين هناك في نقطة ما، وكأن الحسم في مصيرنا لم يتم بعد، لا نعرف إلى أين تتجه بنا الأقدار.
لا الأرض (الوطن) سانحة لنا ولا السماء (المكان البعيد عن الوطن) مستقراً لنا ونحن بعيدين عن الأهل والأحبة.
يسألني الصغير “متى سأنزل من السماء وأذهب إليهم؟”.
تملأني السعادة بكلماته، لكنها تقودني الى الحزن أيضاً. ومن قد لا يشعر بهذين المتناقضين الصديقين.
السعادة في الإستماع إلى مثل هذه الكلمات الطفولية الصادقة والنقية والحزن لأننا نكبر ونشيخ في “السماء”، فيما يكبر الأهل والأحبة أيضا في “الوطن”، بعيدين عنا دون أن نشاركهم ألعابهم وضحكاتهم وأفكارهم المبدعة وعباراتهم الطفولية الذكية.
حقيقة، أن الكثير الكثير منا يعتادون على العيش في أوطانهم الجديدة (الغربة). يعملون، يتأقلمون مع التغييرات بشكل أكثر من رائع، يبنون عوائلهم ويراقبون أبناءهم وهم يكبرون بسرعة، فالوقت في الغربة يمر بسرعة أكبر عما هو في الوطن أو هكذا يبدو.
بل أنه وعند زيارة الأهل في الوطن، قد يواجهون صعوبة في إنهاء أيام إجازاتهم دون أن يضجروا، ربما لجهة تعودهم على روتينيات يومية أخرى غير تلك التي كانوا يعيشونها في السابق. والتعود يعني التغيير.
لكن مع ذلك، تبقى جزء من ذاكرتنا، وكأنها محجوزة بشكل دائمي، لذلك الجانب الذي يزورنا بين الحين والآخر كطيف من بلاد يصورها لنا الخيال، كأنها بلاد الأحلام الهادئة المطلة على زرقة البحر وخضرة الأشجار وهدوء الطبيعة، وهي عكس ما تشهده معظم بلادنا في الوقت الحالي وربما في أوقات سابقة أيضاً. ربما بعد المسافات وطولها يمنحان الأمور جمالية مبالغة فيها، تشجع المرء على اللجوء إليها في أوقات الحاجة عندما تطفو غرابة الإنسان في نسيان المواجع واستذكار اللحظات السعيدة التي تبدو وكأنها أعوام من الفرح.
للشاعر المبدع محمود درويش رأي في ذلك، إذ يقول في قصيدته “ولنا بلاد”:
“بلادٌ… حين تنبذنا إلى المجهول… تكبرُ
يكبرُ الصفصافُ والأوصافُ
يكبرُ عُشبها وجبالها الزرقاءُ
تتسع البحيرة في شمال الروح
ترتفع السنابل في جنوب الروح
تلمعُ حبة الليمون قنديلاً على ليل المُهاجر
ومازلنا نحبك. حُبنا مرضٌ وراثيٌ”.
للأسف، لم تسنح الفرصة لأبن أخي الصغير أن يلتقي درويش، لكنه أكمل قصيدته، دون أن يعي ذلك، مجيباً: “أنتم في السماء”!
لينا سياوش