المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس
الكومبس – رأي: المساء يسدل استاره على مدينة بنغازي وهي ترقد وادعة على ساحل الأبيض المتوسط… والليل يبسط راحتيه فوق المياه الزرقاء الممتدة نحو الافق البعيد كأنها رداء من الديباج يغطى المكان وماحوله . كل شئ هادئ في ثاني مدن المملكة الليبية المتحدة مساء الحادي والثلاثين من أغسطس 1969.. وإن كانت طرابلس يومها هى العاصمة الاقتصادية لليبيا ومدينة البيضاء التى شيدها آل السنوسي لملكهم بها البرلمان ودواوين الدولة والمساكن الفاخرة لذوى النفوذ كعاصمة سياسية إلا ان بنغازي ظلت محتفظة بألقها وسحرها عاصمة ثقافية ووطنية في إقليم برقه ثالث أقاليم ليبيا مع طرابلس وفزان.
كان كل شيء في بنغازي يبدو مألوفا… فندق (البرنتشي) يعج برجال المال والأعمال معظمهم من الإيطاليين وجنسيات أوروبية أخرى. متاجر سوق الظلام تتقاطر عليها الأسر.. يبتاعون الملبوسات والاقمشة المزركشة والأواني المنزلية والمشغولات الذهبية. وبين ما كانت الطبقة المترفة تعيش داخل البيوت الوثيرة في حي الأندلس الراقي كان هناك عند مدخل حي الصابري العريق.. حيث تنتشر أكواخ الصفيح ويخيم البؤس والشقاء.. مجموعة من الصبية حفاة الأقدام في ملابسهم البالية يلعبون بين الأزقة الضيقة يتقاذفون الكرة في رشاقة ومحاكاة لعظماء الكرة الليبية في ذلك الزمان مثل أحمد بن صويد وديمس الكبير وأحمد الأحول وغيرهم.
أما بالنسبة لدوائر الحكم فالأمر في ذلك المساء لا يتعدى الرتابة والبطء. رئيس الوزراء عبدالحميد البكوش يتصدر نشرة أخبار التاسعة مساء بمقابلات روتينية لبعض مديري شركات النفط. ولي العهد محمد الرضا لا حس له ولا خبر وهو قابع بقصره فى مدينة طرابلس.. بينما يقضى الملك إدريس السنوسي عطلة استشفاء وترويح واستجمام بالاسكندرية.
إنها الآن التاسعة مساء وطائرة الخطوط الليبية الملكية تحط على مدرج مطار (بنينة) الدولي ببنغازي في آخر رحلاتها ذلك اليوم. وكانت الخطوط الليبية تسيّر آنذاك عشر رحلات يومية بين طرابلس وبنغازي إذ أن المسافة بين المدينتين تتعدى آلاف الكيلومترات.
أحد الركاب القادمين يسرع خارجاً بسترته الرمادية وربطة عنقه الزرقاء… حذاءه الأسود اللامع وشاربه الكثيف… وقد حمل حقيبة يد جلدية سوداء اللون. شق طريقه خارج المطار ناظراً حوله متفحصاً الوجوه ثم يتجه إلى شاب كان في استقباله ويستقلا عربة (فلوكسواجن) زرقاء اللون وسرعان ما يبتلعهما الظلام في اتجاه بنغازي.
كان الشاب القادم من طرابلس هو النقيب عمر عبدالله المحيشي ومستقبله هو النقيب عوض حمزه وكلاهما عضوان في اللجنة التنفيذية لتنظيم الضباط الوحدوين الاحرار. كان النقيب المحيشي يحمل الترتيبات النهائية لساعة الصفر التي حدد لها الضباط الشباب فجر أول سبتمبر 1969. كان ضباط خلية طرابلس بقيادة النقيب عبدالسلام جلود والملازم أول أبو بكر يونس جابر قد اكملوا استعداداتهم وكان قائد المجموعة كلها والرأس المدبر لها الملازم أول معمر أبو منيار القذافي يقود الأمر كله من مدينة بنغازي حيث كان عليه أن يتحرك محتلاً المواقع المهمة وعلى رأسها إذاعة بنغازي بعد أن تنضم إليها إذاعة طرابلس ولعل الذين عاشوا فى بنغازي بعد ذلك يعرفون شهرتها باسم (مدينة البيان الأول) .
بدأ معمر القذافي التكوين الفعلي لخلايا الضباط الأحرار منذ كان هو ومجموعته طلاباً بالكلية الحربية.. بل كانت بداياته الأولى حين كان طالباً بثانوية سبها جنوب ليبيا ولكنه فصل من المدرسة وأبعد من سبها بسبب نشاطه السياسي. وكان التنظيم يضم بعضويته بعض المدنيين الذين التحقوا بالجامعات بدلاً من الكلية الحربية وبعد تخرجهم واصلوا اجتماعاتهم مع خلايا الضباط الأحرار وبعد نجاح الحركة تولوا مواقع مهمة ومن هؤلاء محمد الزوي اول وزير للشئون الاجتماعية وعبد العاطي العبيدي أول وزير للعمل وأبوزيد زوردة أول وزير للاقتصاد وجمعة الفزاني وزير الإعلام ثم سفير ليبيا في الخرطوم . تنامى عدد الضباط الاحرار وانتشر خلال اربعة سنوات بكل معسكرات الجيش الليبي تقريباً. في باب العزيزيه.. سرت.. المرج.. معسكر البركة بنغازي ..درنة وغيرها . كانت رتب أعضاء التنظيم تتراوح بين النقيب والملازم أول. لم يكن أحد يتصور ضباط صغار السن ..رتب صغيرة يخططون لانقلاب عسكرى بتنظيم فى غاية السرية والاحكام . كانت لقاءاتهم معظمها تتم فى منطقة الجبل الأخضر خاصة مدينة المرج ومصيف ( طلميثة) على البحر الابيض المتوسط وهو مكان ترتاده بعض الاسر الليبية بغرض الاستمتاع بالمياه الصافية والرمال النظيفة وربما البعد عن المدن الكبيرة وايضا الاحساس بالامان .
كان الضابط معمر القذافى يتحرك بعربته الفولكس بين المدن فى شكل زيارات ويلتقى باعضاء التنظيم يرافقه الملازم اول مصطفى الخروبى واحيانا النقيب الخويلدى الحميدى . كان الضباط يترسمون خطى ضباط ثورة يوليو المصرية وكان عبدالناصر مثلهم الاعلى وحين كانت هزيمة ٦٧ اهتزت المنطقة العربية من محيطها الى خليجها . كان الضباط الوحدويون الاحرار فى ليبيا الاكثر تأثرا بما جرى .كان بعضهم يومذاك ببعثة تدريبية بالولايات المتحدة وشاهدوا التحيز الفاضح لاسرائيل وعرفوا حجم الدعم الذى تقدمه امريكا لها . اما الذين كانوا بالداخل فقد الجمتهم الدهشة واصاب الشلل عقولهم وهم يسمعون الاخبار تتردد عن قيام بعض الطائرات التى نفذت الضربة الاولى على المطارات المصرية من قاعدة ويلس الجويه الامريكية فى طرابلس وقاعدة العدم البريطانيه فى طبرق . وحينها اقسموا على المضى فى طريق الثوره لمحو ذلك العار.
كان الضباط يعرفون ان قيام ثورة فى ليبيا امر صعب ومهمة معقدة ولكنهم عقدوا العزم على تخطيها :
اولا: وجود قاعدة ويليس الامريكيه بالقرب من طرابلس وهى تعتبر اكبر قاعدة امريكيه خارج الولايات المتحدة.. منها تتحرك المقاتلات والقاذفات.. وترسو عند ساحلها حاملات الطائرات وكل انواع السفن العملاقة والغواصات . كانت لهذه القاعدة اذرع تطول معظم بلاد الشرق الاوسط وشمال وغرب افريقيا وتمثل مركز امداد لوجستى مستمر للقواعد الامريكيه فى اليونان وتركيا والمانيا . كان تقدير الضباط الاحرار ان سرية العملية وعنصر المفأجاة لن يترك للقاعدة فرصة للتدخل الا فى حالة الفشل .
ثانيا: قاعدة العدم البريطانية المتمركزة فى طبرق اقصى الساحل الشرقى الليبى على الحدود المصرية وهى قاعدة بها احدث المدرعات القتالية والصواريخ واجهزة الاتصال الحديثة والمراقبة .كانت المهدد الاول لمصر والعالم العربى . ويرى الضباط ان القاعدة لن تتدخل الا اذا فشلت المحاولة وطلبت منها الحكومة الليبية الدعم والاسناد .
ثالثا: قاعدة قرنادة وهى قاعدة ليبيه ضخمه تقع على طريق فرعى باتجاه الصحراء بين طبرق ودرنة وكانت مهمة هذه القاعدة افشال اى محاولة انقلاب او تحرك وضربه حتى بعد نجاحه اذ انها معدة اعدادا كاملا بمعدات ومدرعات ومركبات ليس لها مثيل عند الجيش الليبى . يقود هذه القاعدة العقيد السنوسى الفزانى وهو ضابط له ولاء مطلق للملك وللانجليز ..قاسى القلب ..شرس ..تدرب هو ضباطه على خطط الهجوم المضاد والاقتحام المباشر .
امن الضباط الاحرار موقفهم من هذه القاعدة بوجود خلية داخلها استطاعت ليلة التنفيذ ان تستولى على مخازن السلاح وتعتقل السنوسى الفزانى داخل القاعدة وتشل حركة اكبر قوة مهددة لنجاح العملية .
رابعا : كان هناك اعداد من العسكريين الانجليز بكل معسكرات الجيش الليبى يقومون بمهام التدريب العسكرى ظاهريا ولكنهم يعملون كخلايا استخباريه ويراقبون الضباط من رتبة عقيد وعميد ولواء تحسبا لقيامهم باى محاولة لتغيير الحكم . ولم يخطر ببالهم ان صغار الضابط من رتبة نقيب وملازم هم مكمن الخطر . اما الضباط الكبار فقد كانوا ملهيين باغتناء السيارات الفاخرة وقضاء العطلات الصيفية فى مالطا وايطاليا والجزر اليونانية . ولعل الانقلاب كان مفأجاة لكبار الضباط الليبين مثل ما كان للانجليز والامريكان .
خامسا: كانت هناك مشكلة وهى ان كل الضباط اعضاء اللجنة التنفيذية والذين اصبحوا اعضاء مجلس قيادة الثورة بعد نجاح العملية هم من صغار الضباط ويكفى ان قائدهم معمر القذافى برتبة ملازم اول وكان خوفهم ان لا يتجاوب معهم الجنود او الشارع . وصل تفكيرهم لمحاكاة الثورة المصرية وظهور محمد نجيب فى القيادة وكان معروفا ببطولاته فى معارك حرب فلسطين . اختار الضباط العقيد سعدالدين بوشويرب رئسا للاركان فى المرحلة الاولى واختاروا اثنين من اساتذتهم فى الكلية الحربية وهما ادم الحواز للدفاع وموسى احمد للداخلية .
كان صباح اول سبتمبر يوما مشهودا تغير فيه مسار تاريخ ليبيا واصبحت جمهورية وسقط حكم ادريس السنوسى واصبحت رحلته الى الاسكندرية ذهاب بلا عودة .
فى صباح اول سبتمبر سمع الليبيون صوتا فى الاذاعة يناديهم بنداء الثورة . كان ذلك الصوت للملازم معمر القذافى الذى اراد له التاريخ فاتحا له ابوابه ليكون الرجل الاول فى ليبيا ويصبح شخصية جديرة بالاهتمام والجدل طيلة نيف واربعين عام .
ويلم يمضى عام حتى خرج الامريكان من قاعدة ويليس فى طرابلس واصبح اسمها ( قاعدة معيتيقة) العسكرية على اسم تلك الفتاة اللبيية ذات الثلاثة عشر ربيعا وكانت ترعى غنمها ذات صباح بالقرب من القاعدة المسورة بالاسلاك.الشائكه ودخلت عنزة لها تحت السور فحاولت الفتاة اللحاق بها وارجاعها وحينها ضربها جندى امريكى بوابل من الرصاص .
اما قاعدة العدم فى طبرق فصار اسمها قاعدة عبدالناصر بعد جلاء الانجليز منها .
اما ما كان من احداث طيلة اربعة عقود ونيف منذ ان وصل معمر للحكم الى ان قتله الثوار فتلك قصة جديرة بالاهتمام.