المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس
قصر النظر الأميركي المزمن لا يقتصر على السياسات الخارجية والعلاقات الدولية، بل يمتد كذلك إلى واجبات الإدارات الأميركية نحو شعبها، ولن يتوقف مسلسل فشل الإدارات الأميركية إلا بمجيء إدارة تعترف بأن الإمبراطورية الأميركية لم تعد قادرة على تحمل الأخطار والتكاليف المترتبة على محاولة الإبقاء على القطبية الأحادية في إدارة شؤون العالم، واحتكار صلاحية هندستها بما يتناسب فقط مع المصالح الأميركية.
مهّد الرئيس الأميركي باراك أوباما باكراً للاعتراف بفشل سياسات إدارته في الشرق الأوسط، وذلك في تصريح أدلى به في كانون الثاني (يناير) 2010 لمجلة (تايم) الأميركية وقال فيه: "إن الآمال لم تكن واقعية"، وسبق أن نبهت مراكز أبحاث إستراتيجية أميركية إلى أن نجاح أوباما في هذا الملف المعقد يحتاج إلى سياسات أميركية خارجية متوازنة، وقادرة على التعامل مع القضايا الجوهرية والشائكة في سياق إستراتيجية متكاملة وجريئة في التعلم من أخطاء الماضي. وحذَّر دبلوماسيون مخضرمون ومحللون سياسيون أميركيون من أن إخفاق إدارة أوباما في التوصل إلى تسوية للصراع العربي- الإسرائيلي سيقوض من مجمل السياسات الأميركية في المنطقة ككل، وسيضع أمامها مجموعة من التحديات الإستراتيجية والأخلاقية، ولتلافي هذا المحذور أكد الدبلوماسيون والمحللون أن الحاجة إلى دبلوماسية سلام أميركية دائمة ونشطة هي أمر هام للغاية لمعالجة الحماقات الإستراتيجية التي ارتكبتها إدارة بوش الابن.
لكن سلوك إدارة أوباما كشف منذ البداية عن حالة إرباك وتردد سببها عدم امتلاك أوباما رؤية إستراتيجية حقيقية للسلام في الشرق الأوسط، وذلك عكس الانطباع الذي ساد إبان حملته الانتخابية، وتجلى هذا في تراجعه أمام مجموعات الضغط اليهودية الأميركية واستسلامه لها، حيث أحجم عن القيام بخطوة جرئيه للإعلان عن حل يحقق معادلة قيام دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة في عام 1967، وارتد إلى الموقف الأميركي التقليدي الملتزم بما تريده إسرائيل، وتوفير الدعم العملي لأسلوبها في إدارة الصراع، حتى لو أدى ذلك إلى تخفيض المشاركة الأميركية في جهود التسوية السياسية.
وخرج الفلسطينيون من تجربة الوساطة التي قادها المبعوث الأميركي السابق إلى الشرق الأوسط جورج ميتشل بخلاصة مفادها: إذا كان من الصحيح أن العلاقة الإستراتيجية مع إسرائيل ليست المصلحة الأميركية الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط، إلا أن هذه العلاقة تبقى حجر الأساس للسياسات الأميركية الشرق أوسطية، ومن السابق لأوانه الحديث عن تغيير جوهري في أولويات ساكن البيت الأبيض. وهو استنتاج دقيق، وربما سينطبق على السلوك الأميركي في المدى المنظور، نظراً لأن آليات صنع القرار في واشنطن تخضع لقوى ضغط عديدة، ينشط فيها اللوبي اليهودي على محور العلاقات الأميركية-الإسرائيلية، واستطاع هذا اللوبي أن يضطر إدارة أوباما للتراجع عن شرط تجميد كل أعمال الاستيطان قبل استئناف المفاوضات الإسرائيلية-الفلسطينية، ما قاد جهود إحياء المفاوضات إلى طريق مسدود.
وقبل أيام أقر الرئيس أوباما بفشل سياساته الداخلية، حيث اعترف، في مقابلة مع قناة (سي بي سي) الإخبارية الأميركية، بإخفاقه في تغيير طريقة صنع السياسة في واشنطن، والتغلب على أجواء الانقسامات الحزبية التي تسود في الكونغرس والحياة السياسية. وأضاف: "يبدو أن واشنطن تسير بشكل يناهز من حيث السوء ما كان عليه الوضع قبل أربع سنوات، في وقت يسود فيه انقسام كبير بين الديمقراطيين والجمهوريين.. اعتقد إنني قللت من تقديري لدرجة الأسبقية التي تحظى بها السياسة على حل المشاكل في هذه المدينة.. ومن بين الأمور التي نتعلمها في هذا المنصب، هي أن كل شيء يأخذ وقتاً أكثر مما نريد". واعتبر أوباما في المقابلة ذاتها -حسب وكالة رويترز- أن الناخبين الأميركيين سيقررون في تشرين الثاني(نوفمبر) المقبل أياً من المرشحين الرئاسيين، هو أو منافسه الجمهوري ميت رومني، يقدم أفضل الحلول للمشاكل الأميركية.
لقد حاول أوباما أن يقدم صورة مختلفة للولايات المتحدة، يتقدم فيها في السياسات الخارجية الأميركية حصان الدبلوماسية على عربة المؤسسة العسكرية ومن ورائها بارونات النفط وتجارة السلاح، والتلطيف من غلو اقتصاد السوق المحرر من القيود، من خلال تنفيذ جملة من الإصلاحات التي وعد بها في حملته الانتخابية داخل المجتمع الأمريكي، والمرتبطة بتوسيع نظام التأمين الصحي وإلغاء التخفيضات الضريبية التي أقرت في عهد بوش الابن لفائدة الأثرياء، وإنعاش الاقتصاد، والحد من البطالة، وإصلاحات اقتصادية واجتماعية أخرى، لكنه فشل في الوفاء بمعظمها نظراً لطبيعة النظام السياسي الأميركي، فبهزيمة الحزب الديمقراطي أمام الحزب الجمهوري في انتخابات الكونغرس النصفية 2010 تقلصت في 2011-2012 فرص الأخذ بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي يتبناها الرئيس أوباما خلال ما تبقي له من فترة رئاسته الأولى. وبالفعل سريعاً ما ارتفعت دعوات الجمهوريين بالدعوة إلى خفض الضرائب، والتراجع عن كثير من بنود الإصلاح المالي، ومطالبة الرئيس أوباما بإلغاء القانون المعدل للرعاية الصحية أو تعديله، بسبب ارتفاع تكلفة متوسطات أقساط التأمين الصحي. فما يشغل الجمهوريين هو العودة إلى البيت الأبيض، ولو كان الديمقراطيون هم مَنْ في مقاعد المعارضة لكانوا مارسوا أداءً مماثلاً إنما بأدوات وعناوين مختلفة.
ما المخرج من كل هذا؟ يجيبنا على هذا السؤال الباحث الأميركي تشارلمز جونسون في كتابه "مآسي الإمبراطورية العسكرية السرية ونهاية الجمهورية" بالقول: "إن السبيل الوحيد لكبح هذا الجماح، وإعادة أميركا إلى ما كانت عليه في السابق، هو إجراء إصلاحات داخلية، تبدأ بالسيطرة على الكونغرس، وتخليص النظام الانتخابي الأميركي من الفساد الذي لحق به، وحوّله إلى قميص مفصل لخدمة مآرب وغايات بعينها..".
إن قصر النظر الأميركي المزمن لا يقتصر على السياسات الخارجية والعلاقات الدولية، بل يمتد كذلك إلى واجبات الإدارات الأميركية نحو شعبها، ولن يتوقف مسلسل فشل الإدارات الأميركية إلا بمجيء إدارة تعترف بأن الإمبراطورية الأميركية لم تعد قادرة على تحمل الأخطار والتكاليف المترتبة على محاولة الإبقاء على القطبية الأحادية في إدارة شؤون العالم، واحتكار صلاحية هندستها بما يتناسب فقط مع المصالح الأميركية.
ولهذا؛ المطلوب تغيير العقلية الأميركية ككل، في نظرة أميركا لنفسها، وفي نظرتها إلى العالم، بإخراج نظامها السياسي من حالة عقم تدور وتلف في دوامة جماعات الضغط، التي أصبحت بذاتها حكومة ظل خفية تصوغ السياسات الخارجية والداخلية للولايات المتحدة الأميركية.
عامر راشد
أنباء موسكو
17 يوليو 2012