المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس
تنطوي المعركة التي يخوضها الائتلاف المعارض لحكومة نوري المالكي على نقلة مهمة في النظام السياسي العراقي، باتجاه عابر للطائفية السياسية والجهوية والإثنية، فمن يقفون ضد المالكي ويطالبون بتنحيته مزيج من القوى السياسية السنية والكردية والشيعية، وكذلك من يقفون إلى جانبه، ومن يتخذون مواقف وسطية.
تنطوي المعركة التي يخوضها الائتلاف المعارض لحكومة نوري المالكي على نقلة مهمة في النظام السياسي العراقي، باتجاه عابر للطائفية السياسية والجهوية والإثنية، فمن يقفون ضد المالكي ويطالبون بتنحيته مزيج من القوى السياسية السنية والكردية والشيعية، وكذلك من يقفون إلى جانبه، ومن يتخذون مواقف وسطية.
المتابع لخارطة الاصطفاف الحزبي والسياسي، التي تشكَّلت على أبواب الانتخابات النيابية في العراق 2005، ونسبياً انتخابات 2010، لا بد أن يدرك المعنى الرمزي للتغيير الجاري، وما سيترتب عليه مستقبلاً إذا أعطي فرصته كاملة، حيث افتقرت العملية السياسية منذ احتلال العراق عام 2003 إلى بديل وطني جامع يتجاوز التكتل والانحياز الطائفي والإثني، ويضع كل المكونات العراقية في مسار الديمقراطية للوصول إلى السلم الأهلي، وتجديد الفكر السياسي بما يحمي العراقيين من السقوط في براثن دكتاتورية دينية طائفية (ثيوقراطية)، ترث النظام الفردي (الأوتوقراطي) والشمولي السابق.
ومما يدعو للاطمئنان أن معارضي المالكي يصطفون خلف مطلب بناء دولة مؤسسات، بعيداً عن الاصطفاف الطائفي، الذي أفقد العراق الاستقرار السياسي والحكومي. لكن من الضروري أن يرتب تحالف المعارضين أوراقه بحسم كل القوى المنضوية فيه لخياراتها، وإثبات أن المعركة مع المالكي وحلفائه هي معركة حول ممارسات وبرامج وأهداف الحكم، وليس طموحات شخصية وعدوات متبادلة مبنية على نوازع ذاتية، لا تزال تخلق انقسامات عميقة بين قيادات الكيانات السياسية الطائفية والجهوية والإثنية، على الصعيد الداخلي للكيانات، وعلى صعيد العلاقات بين هذه الكيانات المتصارعة.
ولم يعد أي من قادة الكتل يستطيع أن يتكئ على تحشيد سياسي طائفي لحفظ المحاصصة التي فرضت في نص الدستور، كان أكبر المستفيدين منها نوري المالكي الذي يقبض بيد من حديد على الحكومة، بتولي رئاستها ووزارتي الداخلية والدفاع والقائد العام للجيش، ويبسط سيطرته من خلال أتباعه على كل مؤسسات الدولة، ويتجاوز صلاحيات رئاسة الجمهورية، ويمنع نائبه صالح المطلك من دخول مكتبه، ويتغول في سياسة إقصاء خصومه، ولا يتردد في استخدام كل وسيلة ممكنة لمحاربتهم، وآخرها تلويح أحد قياديي "ائتلاف دولة القانون" –الذي يتزعمه المالكي- في تصريح لصحيفة "الحياة" اللندنية باحتمال لجوء الأخير لفتح ما وُصف بـ"ملفات فساد وإرهاب" يحتفظ بها ضد شخصيات من خصومه، وزاد القيادي في "ائتلاف دولة القانون": "رئيس الوزراء لم يفتح الكثير من ملفات الفساد والإرهاب بسبب عدم اكتمال التحقيقات فيها، أو حرصاً منه على العملية السياسية، لكن الاستجواب قد يؤدي إلى الكشف عنها".
ويبدو أن المالكي يمارس في مثل هكذا تهديدات لعبة الروليت الروسي، إذ أن سجل حكومته تشوبه تجاوزات خطيرة في مجال حقوق الإنسان، من اعتقال لعشرات الآلاف دون محاكمة، لا يزالون عرضة للتعذيب وسوء المعاملة بشهادة منظمة العفو الدولية، واستمرار اعتقال آلاف صدرت بحقهم أوامر قضائية بالإفراج عنهم، ناهيك عن فتح سجون سرّية يديرها أنصاره، واتهامات بالفساد السياسي والمالي وإهدار المال العام.
إلا أن الملاحظات المذكورة بحاجة للفحص حتى لا تبنى عليها استنتاجات خاطئة أو متسرعة ومبالغ فيها، فالمعضلة التي يعاني منها العراق تعجز الأدوات السياسية والحزبية السياسية الحالية عن حلها جذرياً، لأنها المعضلة بذاتها، وهو ما يشير إليه المفكر العراقي ميثم الجنابي بالقول: "ليس هناك من إشكالية يعانيها العراق الآن أكبر من إشكالية النخبة بشكل عام والسياسية بشكل خاص. ولعل مصدر الغرابة والإثارة والتخريب فيها يقوم على أن النخب السياسية العراقية هي بحدِّ ذاتها إشكالية ومشكلة وسبب ومسبب للخراب الفعلي في العراق الحديث. والقضية ليست فقط في أنها ليست نخبة بالمعنى الدقيق للمصطلح، بل أشبه ما تكون من حيث حدها وحقيقتها بفوضى مهندمة".
إذن ما قيمة ما قد تؤدي إليه المعركة الدائرة بين المالكي وخصومه؟
رغم ما سبق، برأينا هناك ثمة جانب مهم جداً يجب التمعن به، وهو أن النخب السياسية العراقية المهيمنة بدأت تسلِّم بأن مشاريع الطائفية السياسية وصلت إلى طريق مسدود، وتستولد دكتاتوريات لا تقل سوءاً عن النظام الشمولي السابق. وبوصول الطائفية السياسية إلى طريق مسدود لجأت بعض أطرافها مكرهة إلى الخروج من مربع الاصطفاف الطائفي، لحماية الذات والنأي بنفسها عن التصرفات الدكتاتورية للمالكي، الذي أصبح حملاً ثقيلاً حتى على كاهل حلفائه.
جانب آخر على قدر كبير من الأهمية أظهرته الأزمة، يتمثل في تراجع التأثير الأميركي والإيراني في ترتيبات البيت العراقي، فعودة المالكي لرئاسة الوزراء، رغم أن ائتلافه حلَّ ثانياً في انتخابات 2010، فرضها توافق أميركي إيراني، بينما في الأزمة الراهنة شبَّ مقتدى الصدر عن طوق الإملاءات الإيرانية، وشبّ عن طوق الإملاءات الأميركية "القائمة العراقية" (بزعامة إياد العلاوي) والحزب الديمقراطي الكردستاني (بزعامة مسعود البرزاني) ويقف الرئيس جلال الطالباني وحزبه "الوطني الكردستاني" في الوسط ليميل مع الكفة التي سترجح.
ومن الإيجابيات المتوقعة للأزمة أن القوى العلمانية العراقية ستجد بعد سنوات من الإقصاء فرصة لإثبات حضورها، ومقارعة الطائفية السياسية في عقر دارها، فالمستقبل في العراق لا يمكن أن تحكمه عقلية العمائم ومن يأتمرون بأمرها، لأن خارطة الطائفية والعرقية والإثنية تفرض كحتمية موضوعية ضرورة وجود نظام حكم علماني ديمقراطي تعددي.. معركة سيخوضها العلمانيون دون أوهام لديهم بحجم تأثيرهم المتواضع حالياً في الخارطة القائمة لنظام المحاصصة الطائفية، لكن لا بديل عن العلمانية كضمان لمستقبل العراق أرضاً وشعباً. وإلى حين توفر شروطها الموضوعية تظل المعركة بين أطراف النظام السياسي الحالي مفتوحة على كل الاحتمالات، نجاح المعارضين للمالكي فيها يوفر فرصة لإعادة تشكيل الدولة من جديد وفق الدستور، الذي رغم علله، يظل سقف التطور الذي يمنحه أعلى، وبما لا يقاس مع سقف حكومة المالكي.
عامر راشد
أنباء موسكو
13 يونيو 2012