المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس
الكومبس – رأي: بعد كل حادثة إحراق للمصحف الشريف أو رسوم مسيئة للإسلام ورموزه وردود الأفعال التي تعقبها، تقفز الى الواجهة تلك الأسئلة المعتادة التي مللنا من تكرارها:
لماذا لا تسِنُّ دُول العالم (والسويد تحديداً) قانوناً يجرم إهانة الاديان ورموزها وتنتهي المسألة؟
ولماذا يُعلّق المسؤولون “تساهلهم” مع إهانة الرموز الدينية على شماعة “الحرية”؟
وهل إهانة مقدسات الاخرين يقع فعلاً ضمن نطاق “الحرية”؟
هذه الأسئلة تبدو في ظاهرها منطقية، ولا تحتاج لكبير جهد أو حِنكة دبلوماسية لحلها، والجواب عنها الذي لا يحتمل التأويل ولا يقبل الجدال هو “أن مقدسات الآخرين هي أحد القيود التي يجب مراعاتها حين نستخدم الحرية التي كفلها لنا الدستور والقانون”.. هذا أمر بديهي، ولا أدري لماذا غابت هذه البديهية عن أذهان المُشرّعين؟
..ولكن انتظر!
فالامر ليس بهذه البساطة وحتى السذاجة التي نتصورها، اتدرون لماذا؟
لأننا وبكل بساطة نرى الأمور من زاوية واحدة فقط، وهي الزاوية التي تراعي مشاعرنا ومصالحنا وحقوقنا فقط، دون الأخذ بعين الاعتبار مصالح وحقوق ومشاعر وحتى “حريات” الآخرين .. لذلك فإن أحكامنا ستظل ناقصة ولا تتعدى الزاوية الوحيدة التي اعتدنا أن نراها منها.
تعالوا بنا إلى المثال التالي!..
في العام 2020 انتشر أحد المقاطع على مواقع التواصل الاجتماعي كالنار في الهشيم. يُظهر المقطع امرأة من إحدى العواصم العربية تقوم فيه بتكسير تماثيل لرموز دينية تخص إحدى الطوائف، وذلك في احد المحال التجارية المملوك لأحد المقيمين هناك. المرأة في المقطع لم تكتفِ بإهانة مقدسات هذه الطائفة وحسب، بل تعدت ذلك إلى إهانة العامل شخصياً، وبررت فعلتها تلك بأنها كانت تدافع عن دينها ووطنها، وأنها تحافظ على “قِيَم” بلدها من تغوّل “الكفار” الوافدين اليه، فهي تعتبر “الرموز الدينية” تلك بمثابة “اللات والعزى” وباقي أصنام مشركي قريش، وأن تكسيرها هو واجب ديني ووطني لتطهير بلدها من الأوثان، وكأن “لسان حالها” يقول بِأن من يريد الإقامة في بلدها فعليه أن يندمج في مجتمعه الجديد (بالطريقة التي تحددها هي وعلى مقاسها الخاص)، وأن على المُقيم أن يخلع جميع الشعائر والرموز الدينية التي لا تنسجم مع “قيم بلدها”، وذلك حتى قبل أن تطأ قدمه أرض تلك البلاد، والا فإن عليه أن يرحل.. ألا يذكركم هذا بفعلة أحدهم؟
العجيب أننا -أو أغلبنا- في ذلك الوقت صفقنا لهذه المرأة حتى احمرت أكفنا واعتبرناها بطلة قومية بل أيقونة دينية، وصرنا ننشر مقطعها شرقاً وغرباً، ونسينا -أو بالأحرى تناسيْنا- أن الأيام دُوَل، وأن هذه الدنيا دوارة، وأن السحر سيظل يتربص بالساحر حتى ينقلب عليه.
لتُطل علينا بعدها وبشكل فج “النسخة الدنماركية \السويدية” لتلك المرأة، فخرج علينا ذلك البغيض ليهين مقدساتنا ويستخف برموزنا ويجرح مشاعرنا؛ والمضحك المبكي أنه كان يستخدم ذات المبررات التي ساقتها “بطلة” حكايتنا آنفاً، فقد اعتبر فعلته تلك دفاعاً عن وطنه وثقافته من “تغول المسلمين أو ما يسميه “أسلمة” أوروبا”، وحفاظاً على ما يعتبره “قِيَم بلده” .
طبعاً في هذه الحالة نحن نرى -ومن زاويتنا- أن هذا التصرف عبارة عن عنصرية بغيضة وعنجهية مقيتة وجريمة كراهية بكل ما تحمله من معنى.
والسؤال الأهم.. لماذا الذي كنا نعتبره دفاعاً عن الدين والقيم والمبادئ في الحالة الاولى، انقلب تماماً في الحالة الثانية فصرنا نراه ازدراء للأديان عندما اُستُخدم ضدنا؟
لماذ هذه الازدواجية التي تقمصتنا؟ هل نحن فعلاً ازدواجيون دون أن نشعر؟ هل نستطيع فعلاً مراعاة الإنصاف في الحكم على الآخرين؟ أم أن الأمر أعقد من ذلك؟
..كي نبسط المسألة تعالوا بنا نجري تجربة لطيفة!
لنفترض -جدلاً- أنه قد تم تكليفك لصياغة “قانون” يُحرّم و يُجرّم إهانة معتقدات ومقدسات الآخرين من جميع الأعراق والديانات والثقافات، وفي الوقت ذاته فإن عليك مراعاة “الحرية” الشخصية والعامة للجميع بالتساوي ودون تمييز.. هل تظن أنك تستطيع صياغة هكذا قانون؟
أنا شخصياً كنت أعتقد بأن الأمر سهل وبالإمكان؛ هكذا كنت اتصور، حتى مررت يوماً أمام تمثال منحوت على “صورة بقرة” يتوسط ساحة عامة، كان هذا التمثال يبدو كأنه بقرة حقيقية وبحجم بقرة طبيعية.
بين صورة البقرة.. وسورة البقرة
اثناء وقوفي أمام ذلك التمثال مرّ مجموعة من الفِتية وبدؤوا امتطاء ظهره والمزاح حوله، حتى وصل بهم الحال إلى إتلافه وتخريبه وحتى إهانته، الأمر الى هذا الحد كان يبدو عادياً أو بالأحرى معتاداً (بالنسبة لي على الاقل)، إلى أن مرّت على هذا المشهد سيدة يبدو من هيئتها وثيابها أنها من “أصول هندية”، هذه السيدة لم تُشِح بنظرها عن هذا المشهد حتى توارت بعيداً.
عندها قفز في رأسي ذلك السؤال الخطير: ماذا لو كانت هذه السيدة من ابناء الطائفة التي يُقدِس معتنقوها “البقرة”؟ ألا يعتبر هذا التصرف إهانة “لرمز ديني” لأبناء هذه الطائفة (من وجهة نظر تلك المرأة على الأقل)؟ ألا يعتبر ذلك ازدراءً لأحد الأديان؟
ان الفكرة تبدو سطحية لمن ليس لديه اطلاع واسع؛ ولكن اذا علمتَ مثلاً ان مجرد فكرة إهانة البقرة (فضلا عن ذبحها وسلخها وأكل لحمها) مرتبط وبشكل مباشر بالصراع الطائفي في المجتمع الهندي، وتحديداً كونه أحد مبررات العنف ضد المسلمين هناك، والذي يموت بسببه مئات الآلاف ويُشرد الملايين سنوياً، بل ويكاد يكون سبباً لحرب ستحرق الأخضر واليابس اذا امتدت يد الفتنة لاستغلاله.. اذا نظرنا إلى المسألة من تلك الزاوية لتَيَقنَّا أن القضية تصل إلى حد التعقيد.
إذ أن مجرد فكرة الشروع بصياغة قانون يُوَفِّق بين قوم يعتبرون “البقرة” رمزاً دينياً من جهة، وحرية التدين لقوم يجهرون في صلاتهم بآية “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً” من جهة أخرى، هي عقدة يستحيل حلها.
فلك ان تتخيل مثلاً:
*أن البقرة التي يزين لحمها سُفرة المسلم في رمضان، هي ذاتها “الأم المقدسة” لدى الهندوسي..
*وأن الكتب المقدسة عند أبناء الديانات السماوية، هي مجرد وريقات من وجهة نظر اللادينيين..
*وأن بقايا وجبة الدجاج المُلقاة في سلة المهملات، هي بمثابة جريمة لا تُغتفر في نظر ” النباتيين”..
*وأن سياراتنا التي تجوب الشوارع ليل نهار، يعتبرها “أنصار البيئة” مصدر كل الشرور على كوكبنا..
…وعلى ذلك فقِس!
إن ما نعتبره “سخيفاً وتافهاً” من وجهة نظرنا قد يكون مُقدّساً عند غيرنا، وما نعتبره نحن خطاً أحمر (دينياً أو اجتماعياً او ثقافياً) قد يتصادم بشكل او بآخر مع ثقافة وحريات وحتى دين غيرنا.
إن هذه المعادلة المعقدة وضعت الساسة والفقهاء وحتى علماء فلسفة القانون -قديماً وحديثاً- وسط متاهة لا نهاية لها.
يقول الدكتور أحمد حسين عثمان: “يُقرِّر فلاسفة القانون أن هناك مشكلة تواجه كل النظم القانونية، وهي مشكلة الموازنة بين اعتبارات الثبات والتغير، وتبلغ هذه المشكلة مداها عندما يحدث التباعد بين النص القانوني الثابت والواقع الاجتماعي المتغير (والمتشابك)؛ وإن هذه المشكلة تلحق أي نظام قانوني مهما كان مصدره إذا ظل فقهاؤه مكتوفي الأيدي، يتابعون سير المجتمع إلى الأمام ولا يحرِّكون المياه الراكدة في النصوص. (المصدر: قراءة في كتاب “تفسير القوانين” النص والسياق والتفسير المقاصدي)
هل تُصلح النية الطيبة العمل الفاسد؟
قد يقول قائل: “إن العبرة في النوايا.. فهناك فرق شاسع بين من يمس “مُقدساً” عن دون قصد أو سبق إصرار وترصد، وبين من يتعرض له على سبيل الإهانة والتجريح”.
وهذا الكلام منطقي ووجيه، لكن من الناحية النظرية فحسب، أما عملياً فتكمن معضلة جديدة.
“فالنية” أمر اعتباري وهلامي يصعب الكشف عنه أو قياسه والحكم عليه، ما يضع المشرعين وفقهاء القانون وحتى القضاة أمام عقبة جديدة بل وعقدة متجددة، ويعطي المتصيدين في الماء العكر مساحة لا حدود لها للمناورة والاستغلال.
إن احترام الآخر ورموزه الدينية والاجتماعية والثقافية، هي مسألة “أخلاقية” بالدرجة الأولى قبل أن تكون “قانونية”، ومن المشين أن ننتظر قانوناً ليلزمنا بها أو حتى عقوبة لتردعنا عن تجاوزها. وإن مسؤولية ترسيخ هذه الثقافة الأخلاقية والتربوية تقع على عاتق الجميع ابتداءً بالأسرة ومروراً بمؤسسات المجتمع المدني وانتهاء بالسلطات التشريعية والتنفيذية.
إرضاء الناس غاية لا تُدرك
إذا أسقطنا الامثلة السابقة على واقعنا في أوروبا عموماً والسويد خصوصاً لَعلمنا المعضلة التي يواجهها المُشرّعون في مثل تلك المجتمعات المنفتحة والديمقراطية، ولكبحنا جِماح اللوم الذي اعتدنا أن نصبّه فوق رؤوسهم. “فالتنوع” الذي يُميّز هذه المجتمعات ومع كل ما فيه من مكاسب، فإنه قد يتحول الى فتيل قنبلة موقوتة تهدد نسيج مجتمع متامسك (أو كنا نظنه متماسكاً) كالمجتمع السويدي.
وقبل أن أرخي قلمي وألملم أوراقي أود التأكيد أن “حرق المصحف الشريف هو جريمة كراهية مكتملة الأركان”. فهذه المسألة لا جدال فيها، والأمثلة التي وضعتها بين أيديكم هي مجرد نافذة لرؤية الصورة من جميع زواياها، وذلك كي يكون حكمنا صحيحاً وواقعياً، ولتستوعب عقولنا أن مهمة المُشرعين ليست سهلة كما يظنها البعض، ولنطرد من أفكارنا “نظرية المؤامرة” العالقة في أذهان بعضنا؛ ولنعلم أن القبول بتنوع الثقافات يتطلب من الجميع القبول بـ”الحل الوسط” أو حتى الرضوخ له، وذلك من أجل التكامل والتعايش.
وهنا نصل الى حقيقة راسخة لا تتجزأ مفادها أن “إرضاء الناس كل الناس غاية مستحيلة المنال”، فإن أَرضيْنَا واحداً سخط في مقابله مئة، وإن راعينا طائفة اعترضت علينا طوائف، وآن لنا أن نفهم أن القواعد الديمقراطية وما ينتج عنها من قوانين ستبقى دائما عرجاء تتكئ على أصوات الأغلبية ولا تراعي -للأسف- مشاعر الأقلية.