المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس
الكومبس – مقالات الرأي: للعقل الجمعي سطوة
تفوق سطوة قوانين الدولة باعتبارها أداة إجبار. إنه يسكن عميقاً في وجدان الأفراد
ويحرك سلوكهم بغية طلب رضا الجماعة.
تتكون ملامح هذا العقل عبر سلسلة من العلاقات
المعقدة في تشابكها تاريخياً. يتأثر بالظروف الاقتصادية والسياسية والتصورات
الدينية والاجتماعية. ويبني صوراً في أذهان الأفراد تتحول تدريجياً إلى مسلّمات،
فيُنشئ معاييرَ وقيماً اجتماعية تحميها قوة تأثير الجماعة.
سال كثير من الحبر في سبيل فهم العقل الجمعي
العربي وآليات التأثير فيه تأثّراً بنظرية عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم
صاحب مقولة “العقل الجمعي”.
ما يهمنا هنا هو العقل الذي يتشكل وسط
الجماعة الناطقة بالعربية في السويد. إنه عقل قادم من بيئات مضطربة لم تحسم معظم
أسئلتها الكبرى عن الهوية والثقافة والدين والدولة. غير أن وجوده في مجتمع جديد
مختلف كلياً يمنحه تمايزاً عن الأصل.
يسهم العقل الجمعي في بناء تصوراتنا عن هذا
المجتمع الجديد. ويُنتج صوراً ذهنية جماعية، سلبية وإيجابية، ليس من السهل
اختراقها. وسائل التواصل الاجتماعي تلعب دوراً حاسماً في ذلك.
يقفزهذا العقل أحياناً من مقدمات صحيحة إلى
استنتاجات خاطئة، ثم يتحول الاستنتاج مع تكرار تداوله إلى صورة ذهنية. أمثلة ذلك
كثيرة في الواقع اليومي.
الصورة عن الرعاية الصحية في السويد مثلاً.
طوابير الانتظار الطويلة وبعض الأخطاء الطبية، مشكلات حقيقية في السويد، لكن
الاستنتاج الذي يقفز إليه العقل الجمعي بأن “الرعاية الصحية في السويد
فاشلة” هو استنتاج خاطئ تكذّبه الحقائق والأرقام والتعريف العالمي المتفق
عليه للفشل.
يركّز هذا العقل على السلبيات، وهي موجودة
حتماً، لكن التصورات التي يبنيها لا تعبّر عن حقيقة الواقع. التعليقات على أي خبر
يتحدث عن الشأن الصحي في السويد تنبئ بكثير من هذه التصورات والتعميمات.
نعم هناك أخطاء طبية في السويد، فادحة
أحياناً حسب ما تنقل وسائل الإعلام، لكن تقييم النظام الصحي في كل دولة يقوم على
مؤشرات تضعها منظمة الصحة العالمية وتختبرها بالأرقام، وهي تضع السويد واحدة من
أفضل الدول بالرعاية الصحية. لكثير منا تجارب سلبية في الرعاية الصحية، لكن
مقابلها تجارب إيجابية لا نذكرها عادة.
وسائل الإعلام بطبيعتها ناقدة، لذلك تركّز
على الأخبار السلبية، لكن أن تعتقد جماعة كاملة بأن الرعاية الصحية فاشلة، فإن ذلك
يحتاج إلى دراسة حقيقية لآليات تشكُّل الآراء الجماعية.
وإذ نكتفي هنا بالملاحظة البسيطة، فإن
تصوراتنا الجمعية عن كثير من المجالات الحيوية في السويد يحكمها
“اللامنطق” نفسه.
في مدينة صغيرة حيث أعيش، من الصعب مثلاً
إقناع الجماعة العربية هنا بأن التعليم في السويد أكثر تطوراً منه في البلدان التي
أتينا منها! فالطالب هنا لا “يحفظ” كماً هائلاً من المعلومات كمثيله في
دولنا، ولا يدرس كتباً ضخمة، ولا يُمتحن مئات المرات. ويستطيع أي فرد أن يضرب
عشرات الأمثلة عن “فشل” التعليم في السويد. حتى أن أحدهم قال “في
مدارس السويد يوجد كل شيء إلا التعليم”.
بالطبع لا مقارنة للتعليم هنا بالتعليم في
بلادنا، وإلا لماذا يدرس الطالب لدينا اللغة الإنجليزية مثلاً 12 سنة ثم لا يستطيع
تكلمها؟! ولماذا يتخرج الطالب من الجامعة غالباً وهو غير مزود بمهارة عرض أفكاره
أو ما يعرف هنا
بالـ Presentation؟! ولماذا
يستطيعون هنا في المحصلة النهائية تخريج متعلمين نظّموا في النهاية بلداً متطوراً
ولم نستطع؟! ومئات من أسئلة “لماذا؟!” يمكن سوقها في هذا المجال.
في السويد فلسفة مختلفة في التعليم، حتى عن
كثير من دول أوروبا، ولهذه الفلسفة ما لها وعليها ما عليها، والسويديون في نقاش
دائم حول سلبياتها وإيجابياتها، لكن الاستنتاج السلبي الذي نقفز إليه مباشرة يؤثر
في طريقة تفاعلنا مع مجمل العملية التعليمية هنا.
بالتأكيد لكثير من الأفراد آراء مختلفة عن
التصورات الجمعية، غير أن خطورة التصور الجمعي الأكبر في أنه يدفع معظم الأفراد
إلى تبني آراء سهلة لا تحتاج إلى كثير من التفكير أو النقد.
إن أصعب مهمة يواجهها الإعلام عادة هي تغيير
التصورات الجمعية، لأنها تخلق حالة تعرف بـ”دوامة الصمت” بحيث يخشى
الفرد الجهر بآراء تخالف رأي الجماعة. لكن على إعلام ما، وجمعيات أهلية ما، وقادة
فكر ما، أن يستمروا في لعب هذا الدور بدل تعزيز التصورات الجمعية. وعلينا كأفراد
أن نفكر في تأثير التصورات الجمعية على آرائنا أولاً وسلوكنا ثانياً، وألا نقبلها
بسهولة كما هي، بل أن نعرف الواقع كما هو، وهذا يعني مزيداً من التفكير والنقد،
وهي ليست مهمة سهلة حتماً.
مهند أبو زيتون
صحافي مقيم في السويد