المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس
عدة وسائل إعلام عالمية وعربية حاولت نقل الطريقة السويدية في التعامل مع أزمة كورونا بصورة مشوهة وفيها تضليل واضح للحقائق، أغلب التقارير اعتمدت على جزء من الحقيقة والجزء الآخر كان إما بعيدا عن المهنية والمصداقية بشكل غير مقصود أو بشكل مقصود لكي يخدم توجه القناة أو الوسيلة الإعلامية التي على الأغلب تريد أن تقول لمتابعيها أن السويد فاشلة وأن قيادات البلد الذي يمول هذه القناة أو تلك هي القيادة الحكيمة والرشيدة
في زمن الأزمات يتوق الجميع لسماع أي خبر أو معلومة تساعدهم على كيفية التصرف، وتفسير ما يحدث وماذا سيحدث، يتعلق البعض بشيء من أمل وحتى إن كان قشة، ويتوه البعض الآخر بسوداوية تفسير الأخبار وكمية المعلومات وسرعة تدفقها.
وفي زمن الأزمات أيضا ومع غياب ثقة البعض بوسائل الإعلام، تتوفر التربة الخصبة لظهور الشائعات ونموها وانتشارها، هذا البعض الذي يرتاح لسماع خبر يستهويه حتى وإن كان مشكوكا بصحته، لا يثق بوسائل الإعلام حتى وإن كانت مصداقيتها عالية، السبب أنه لا يجد ما يسره من أخبار.
الأخبار السارة بالنسبة للبعض قد لا تقتصر على الخبر الإيجابي، هناك من يحب أن يسمع أخبار التشاؤم والأخبار المبنية على استنتاجات تفسيرات نظريات المؤامرة. حتى وأن توفرت مصادر موثوقة تبقى شهية البعض مفتوحة لالتقاط معلومة مغلوطة تتحول إلى شائعة تلاك وتلاك لتكبر وتنتشر ويصبح من الصعب إيقافها، وإن جرى لاحقا اثبات عدم صحة هذه الشائعة، يصبح الوقت متأخرا لأنها حققت مفعولها في التشويش والتشويه.
في زمن الأزمات أيضا ومع غياب ثقة البعض بوسائل الإعلام، تتوفر التربة الخصبة لظهور الشائعات ونموها وانتشارها
هناك من يعتقد وبقوة أن وسائل الإعلام بالغت وتبالغ في تكبير الأزمة؟ خاصة أن أصحاب هذا الرأي يستندون إلى أرقام معينة تتحدث عن الفرق الهائل بين عدد ضحايا الفيروس منذ انتشاره قبل حوالي 90 يوما وبين أي مسببات أخرى للوفاة فالفيروس الجديد تسبب بوفاة حوالي 8000 شخص فقط في كل العالم خلال 90 يوما.
ولكن خلال نفس الفترة، بلغ عدد الوفيات العالمية بجميع الأسباب 13.68 مليون، منهم 775 ألف طفل بسبب سوء التغذية 775 ألفاً، وبلغ عدد الوفيات من حوادث السيارات 315،000 وقضت الإنفلونزا العادية على ما مجموعه 125.000 شخص، وعدد جرائم القتل 110 آلاف.
ولكن هذه الأرقام يجب ألا تخفي خطورة الفيروس الجديد، وسرعة انتشاره وغموض تصرفاته وإمكانية تطوره، هذا يجب أن لا يعيق أيضا عمل الإعلام بنقل ما يجري وتغطية الإجراءات التي تقوم بها كل الحكومات والدول والمنظمات الدولية، على الإعلام نقل الصورة كما هي وعلى المتلقي الحكم ووضع الأمور بسياقها.
في بلد مثل السويد يمكن اعتبار المعلومة قيمة وثروة، نستخدمها في تحديد تصرفاتنا وما يجب أن نفعله أو لا نفعله
لأن في بلد مثل السويد يمكن اعتبار المعلومة قيمة وثروة، نستخدمها في تحديد تصرفاتنا وما يجب أن نفعله أو لا نفعله
إذا كانت المعلومة غير متوفرة أو خاطئة أو حتى ناقصة، خاصة في زمن الأزمات، ستكون نتائج أعمالنا وتصرفاتنا غير صحيحة أو حتى كارثية.
هناك شروط أخرى يجب توفرها لكي تصبح المعلومة فاعلة ومؤثرة، إلى جانب طبعا المصدر الموثوق وأمانة الترجمة، التجربة أثبتت أن أغلب المعلومات الحكومية المترجمة، غير متاحة للجميع وتترجم بلغة حقوقية جافة تستعطي على فهم الأكثرية، وهذا ليس خطأ المترجمين.
من هنا تظهر أهمية عمل الصحافة في زيادة جودة المعلومة، لأن الصحفي يستخدم، أو من المفروض أن يستخدم لغة مرنة وهو يملك الحق بإضافة كلمات وجمل تساعد على إيصال الفكرة، مع المحافظة طبعا على مصداقية المحتوى.
يمكن للإعلام بشكل مباشر أو غير مباشر إعطاء تصورات عن كيفية صناعة القرار في السويد
إلى جانب ذلك، تستطيع الصحافة متابعة المعلومة بمقابلات، وبتقارير، ومقالات لإيضاح وإغناء المعلومة وما يتعلق بها. موضوع توقيت تقديم المعلومة وسلاسة أسلوب كتابتها وتوجيه أولويات عناصرها، كل ذلك يدخل أيضا بتقييم الجودة المطلوبة.
مهمة الإعلام اليوم لا تقتصر فقط على تغطية الأخبار ومتابعتها ونقل المعلومات المجتمعية ذات الصلة، بل أيضا العمل على محاربة ما يمكن تسميته بصناعة الخوف غير المبرر وبنفس الوقت رفع مستوى الوعي والحذر، ومكافحة ظواهر اللامبالاة والأنانية والجشع واستغلال الأزمات، وكل الظواهر السلبية المرافقة للأزمات، وبالمقابل تشجيع قوى الخير لدى الأشخاص والمبادرات الاجتماعية التي تنادي بضرورة التكاتف والتضامن مع الفئات الأكثر عرضة للخطر.
يمكن للإعلام بشكل مباشر أو غير مباشر إعطاء تصورات عن كيفية صناعة القرار في السويد، وكيفية وضع الخطط ضمن منظور قصير أو استراتيجي، لتخفيف آثار ومضاعفات الأزمة، الاقتصادية منها والاجتماعية والأمنية وغيرها.
من الضروري منح منصة لطرح الاستفسارات وتبادل الأفكار، دون التدخل بفرض تصور أحادي أو رأي خاص، بل السعي ليكون للاختصاصين مكان ومساحة للإجابة وللمناقشة.
تحديات إعلامية كبيرة تواجه وسائل الإعلام الجادة اليوم في رفع قيمة وجودة المعلومة كما أشرنا منذ البداية، وهناك للأسف مواقع وصفحات تساهم عن قصد أو بدون قصد في تخويف الناس وفي التقليل من حجم الثقة بالدوائر والمؤسسات الحكومية، مثال بسيط على ذلك، ما نشرته بعض هده الوسائل من عناوين مرعبة عن أن السويد تريد وتخطط لكي يصاب أكبر عدد من مواطنيها بالفيروس؟!!
المشكلة أن من يكتب مثل هذه العناوين البراقة والصفراء يستند فعلا على مصادر صحيحة ولكن بأقوال مجتزأة على منوال: لا تقربوا الصلاة.
عدم فهم سيناريو وضعته السويد ودول أخرى لطريقة مكافحة الفيروس، وترك القارئ من غير تقديم إيضاحات عن هذا السيناريو أو الموديلز الرياضي، قدم الخبر بصورة مشوهة، ومما زاد من المأساة قيام البعض بربط ذلك بنظريات مؤامرة سخيفة، وهو أقل ما يمكن أن نصف به، استنتاجات البعض التي تقول: إن الفيروس معد بتواطئ من دول عديدة من بينها السويد للقضاء على نسبة من سكان الأرض خاصة كبار السن.
القليل استطاع تفهم أهمية توقيت اتخاذ القرارات والعواقب الوخيمة التي يمكن أن تترتب على القرارات العشوائية بتوقيتها ونصوصها
مثل هذه الاستنتاجات غير الأخلاقية يمكنها أن تزعزع ثقة الناس بمن يقودهم والتي للأسف يتبناها حتى أشخاص متعلمين ومن المفترض أن يكونوا مثقفين أيضا، قد يكون ضررها فعلا أكثر من الفيروس نفسه.
اشاعات وانتقادات وحالات سخط عديدة رافقت تأخير السويد باتخاذ قرار بإغلاق مدارسها وحدودها.
القليل استطاع تفهم أهمية توقيت اتخاذ القرارات والعواقب الوخيمة التي يمكن أن تترتب على القرارات العشوائية بتوقيتها ونصوصها. هناك من حاول تفهم خصوصية السويد وآلية اتخاذ القرارات فيها. وهناك من تفهم ما معنى أن يظهر رئيس الوزراء وبجانبه وزراء مختصين ويصرح بضرورة غسل اليدين، واتباع الارشادات الصحية. وهناك من تفهم ما هي عواقب الشلل الاقتصادي وإمكانية حصول الفوضى وغياب الأمن الاجتماعي في حال كانت القرارات غير مدروسة.
صحيح أن هناك مسؤوليات كبيرة على الإعلام في البحث والتحري عن الحقائق ونشرها كمواد قابلة للفهم والهضم، ولكن أليس هناك مسؤوليات أيضا على المتلقي؟ مسؤوليات منها الابتعاد عن إطلاق الاحكام المسبقة والتفسير القاصر والمجتزء، والقراءة المنقوصة للمادة والاكتفاء بالعنوان أو ببوست الفيسبوك.
إذا مسؤولية المتلقي هي أيضا وضع ما يقرأه وما يسمعه أو يشاهده في السياق الصحيح، بعيدا عن نظريات المؤامرة وتفسيراتها وبعيدا عن السطحية والتعاميم الجاهزة.
د. محمود آغا
رئيس تحرير مؤسسة “الكومبس” الإعلامية