المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس
الكومبس – مقالات الرأي: يرزح مصطلح الاندماج في السويد بين مطرقة التطرف وسندان الجهل بحقيقته، فمن جهة ينشط البعض لتخويف الناس من الاندماج بداعي الحفاظ على الثقافة والهوية الوطنية، ومن جهة أخرى هناك عدم معرفة بالمعنى الحقيقي للاندماج وأهدافه العملية، في حين أن الاندماج لا يفسد للثقافة الوطنية قضية، لأن القانون في السويد لا يمنع لا بل يشجع على ممارسة الحياة الثقافية بكامل الحرية لجميع الثقافات المتعايشة على أرض السويد، ودليل ذلك وجود مئات وربما آلاف الجمعيات المنتظمة في السويد والتي تعمل تحت أهداف ومسميات ثقافية، وجميعها تنشط وتعمل دون قيود أو إملاءات أو تدخل في برامجها، وتلق الدعم والمساندة المعنوية والمادية من المؤسسة الثقافية.
الاندماج بالمفهوم الأعم هو المواطنة بكل معانيها، المواطنة هي مصلحة للناس قبل أن تكون مصلحة للدولة، وهي عملية تمكين أكثر منها “تدجين” كما ينظر لها البعض، أي تمكين المهاجر من امتلاك كل ما يلزمه ليكون مواطنا كامل الحقوق، وبالطبع بالمقابل عليه وجبات لا بد من تأديتها، هذه الواجبات تبدأ من احترام القوانين وتأدية دور فعال في المجتمع والحياة الاقتصادية والتنموية، أما الثقافة والاعتقاد وسواها من الأمور الروحية فهي شأن شخصي يكفله القانون، ما لم يؤدي إلى تعدٍ على حقوق الآخرين، ولمن يسأل عن الدين فقد رأيت بأم عيني المساجد تعانق الكنائس في السويد في مشهد لا يختلف عن المشهد الموجود في القدس أو في أي مدينة عربية عريقة.
بالعودة إلى مفهوم التمكين بوصفه المسار الأهم في قضية الاندماج لا بل هو الاندماج بعينه، أولى خطوات هذا المسار تبدأ بتعلم اللغة السويدية بهدف الدخول إلى سوق العمل أولا وبهدف التواصل مع المجتمع بطبيعة الحال، تعلم اللغة لا يشترط التخلي عن اللغة الأم، لا بل أن جميع المدارس وهذا ضمن خطة الاندماج تدرس اللغة الأم كمادة أساسية ضمن منهاج الطالب، وقد راعني تهرب البعض من تعلم اللغة أو الانتهاء منها، بدعوى أنه إذا أنهى اللغة سوف يلزم بدخول سوق العمل وأن السوسيال سيتخلى عنه، وهذا من الأمراض الشائعة وعدم الفهم لطبيعة المؤسسات التي تقدم الخدمات الاجتماعية، فالعملية برمتها سداد ودين والواجب الأخلاقي يحتم على المرء عندما يمتلك القدرة على العمل، أن يدفع ضريبة لهذه المؤسسات التي أعانته وقت حاجته إليها، وهذا في صلب ثقافتنا الوطنية وعكس ذلك هو إساءة للثقافة الوطنية، إذ يخلق انطباعا سيئا ولا يليق بنا، وربما يعزز ويغذي بعض النزعات العنصرية.
الخطوة الثانية في مسار التمكين هي الدخول إلى سوق العمل، فمن بين أهداف سياسة الهجرة هي التنمية البشرية، المرتبطة بشكل وثيق بالتنمية الاقتصادية، سواء للمجتمع أو للأفراد، ولا أريد التحدث عن أهمية العمل في حفظ كرامة الإنسان، ولكن أيهما أفضل من ناحية اقتصادية للعائلة، العيش على الكفاف أم العيش برفاهية تناظر الرفاهية التي يعيش فيها كل من يمتلك عمل، والحقيقة أن المؤسسات السويدية وضعت العديد من البرامج التي تمكن من دخول سوق العمل، كون ذلك من أولى أولويات الاندماج، فهناك الكثير من المسارات ودورات التدريب والتأهيل المهني المختلفة، المطلوب فقط تحديد أهدافك بدقة، ومن هذه البرامج ما يمكنك أيضا من تغيير مهنتك تبعا لما هو متوفر في سوق العمل، وهناك مسارات وأنشطة متعددة يمكن الاطلاع عليها من خلال مكاتب العمل.
إذا تعلمنا اللغة ودخلنا سوق العمل وأصبح لدينا وضع اقتصادي جيد، ماذا تبق من الاندماج؟ كمواطن في هذه الدولة أو في أي دولة في العالم لا بد من احترام القوانين، خاصة إذا كانت هذه القوانين تكاملية، بمعنى أن الوجبات صممت لخدمة الحقوق في مجتمع رفع من أهمية القطاع الخدمي للناس، سواء في قطاع التعليم أو الصحة أو رعاية العجزة والمسنين وذوي الاحتياجات الخاصة، فهي دائرة متكاملة من الناحية الاقتصادية والأخلاقية، ما الذي يمنع من دفع الضريبة إذا كانت ستعلم ابني وسوف أستعيدها في نظام الرعاية الصحية والاجتماعية، هو أشبه بنظام الادخار لا بل غالبا الخدمات تتجاوز حجم الضريبة، هذه الدائرة المتكاملة تعني الاندماج بمعناه الحقيقي بعيدا عن حملات التشويه والتهويل والتخويف.
الاندماج أبسط بكثير مما يقال ويشاع عنه، ومثلما بدأت الحديث عن الثقافة يمكن أن أنهي بالحديث عن الاندماج الثقافي، وهو لا يعني الانفصال عن الثقافة الوطنية الخاصة، بل هو عملية بحث عن المساحات المشتركة في البعد الإنساني، وحتى من الناحية الدينية بالتدقيق أفردت جميع الأديان المساحة الأوسع للبعد الإنساني، أما ما يخص العبادة والشعائر الدينية، فالقانون يكفل حرية ذلك للجميع، والاندماج لا يشترط عليك شيئا بهذا الجانب، سوى احترام معتقدات وشعائر الآخرين في عملية تبادلية.
وهذا بالطبع ليس غريبا على التراث والثقافة العربية، فمنذ مئات السنين تتعايش أديان وأعراق مختلفة في الوطن العربي، ضمن نسيج وطني واجتماعي واحد، والاندماج يأخذ معناه من نبذ الانغلاق على الذات والعيش في كانتونات ثقافية مغلقة، هذا بالعموم أما في القلب منه دخول سوق العمل والتعايش مع زملاء العمل والمهنة بغض النظر عن أصولهم العرقية والثقافية.