المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس
الكومبس – مقالات الرأي: أجريت مرة لقاءاً صحفياً مع طبيب سويدي من أصل عراقي، يقيم في السويد، كان من اللقاءات القليلة التي شدتني، لثقافة الطبيب الواسعة وتواضعه الجم في تقديم المعلومة وظرافة حديثه، حتى بدت أسئلتي أطول مما كنت قد حضّرت لها مسبقاً.
التعليم والثقافة والتواضع، خلطة نادرة، يشكو نقصها كثيرون، وإذا أضفنا الظرافة الى ذلك، نبدو حينها كأننا نبحث عن عشبة سحرية، طمرتها الصخور منذ قرون!
شخصية الطبيب، ذكرتني برواية جميلة كنت قد عزمت على قراءة صفحاتها ببخل، ليس لقلة الوقت، بل للتمتع بها قدر الإمكان، حيث أبدع الكاتب المعروف في وسطه بالتواضع وخفة الروح، أبدع في إخراجها، بإجمل إسلوب. كنت أتوجس من إنتهاء القراءة فيها، والدخول في دوامة البحث عن كتاب جديد يشدني بنفس القوة.
خوفي كان في محله.
في بلد كالسويد، ملىء بالكفاءات وأصحاب الخبرات، ترى الثقافة والتواضع في تقديم المعلومة، صفة متطبعة لدى الغالبية، وبالأخص أصحاب الشهادات العليا وأصحاب المناصب المرموقة، ربما لإيمانهم، بإنه كلما إرتفع شأن الفرد ومنصبه، كلما زادت مسؤوليته تجاه نفسه وتجاه المجتمع.
يسأل دكتور سويدي في علم الأحصاء، كنت قد حضرت محاضرة له ذات مرة، الطلبة ان ينبهوه في حال إكتشفوا خطأً بما يقوم بحله على اللوحة، هكذا ببساطة وبروحية غنية بالتواضع، اذ يدرك دكتور الأحصاء انه غير معصوم من الخطأ، وإن طلبته قد يكونون أنبه منه في نقطة من النقاط، دون أن يفكر بإن ذلك يعني الحط من قدره او الإستخفاف بمعلوماته. هو على علم بقدراته ويسعى بصدق لنقلها الى طلبته.
أشخاص على هذه الشاكلة، وبغض النظر عن أعراقهم وأجناسهم وأديانهم، أشبه بالسنبلة الغنية بحبوبها والمثقلة بخيرها، تنحني تواضعاً، فيما تتبختر الفارغة منها، مادة هامتها الى الأعلى من أجل لا شيء!
والكفاءات والخبرات، أمر ليس محصوراً بالسويديين فقط، بل من المهاجرين من يملكون الكثير من ذلك، ومنهم من تمكن من تحقيق أهدافه والنجاح في حياته الدراسية والعملية في السويد، الإ إن البعض منهم وللأسف، يبالغون في تقييم قدراتهم، وكأن ما حققوه لم يُقدم أحد على تحقيقه في السابق، ويعطون أنفسهم أكثر من قدرها، وبمجرد ان يكونوا حاصلين على شهادة معينة او على معرفة بإمر دون سواهم، يسمحون لأنفسهم بالإعتقاد بإنهم أفضل من غيرهم وان العالم بحاجة الى قدراتهم، لإعادة توازن الكرة الأرضية.
البعض من هؤلاء، يسمحون لأنفسهم بالتشطر على أندادهم من المهاجرين، مستفيدين من المركز الذي هم فيه، وبالتعامل بإسلوب غير متداول في قاموس الحياة بالسويد، على أساس إن أهل مكة أدرى بشعابها، وإن الأجانب لا يجري التعامل معهم بغير هذه الطريقة!
والوعي الذاتي للفرد، قد يتأتى بالفطرة، تصقله الحياة وتجاربها الكثيرة، فترى رجال ونساء طاعنين في السن، لم تخطوا أقدامهم عتبة مدرسة، يحللون ويقيمون الأمور، بطريقتهم المبسطة طبعاً والمحببة الى القلب، كما لو كانوا خريجي أعرق الجامعات العالمية، فيما يغيب عن متعلم، قد يكون حاصل على أعلى درجات التعليم، أبسط المفاهيم الإنسانية، وأولها إن التواضع أهم ثقافة، نوازن فيها عقولنا، ونتحكم من خلالها بمقدراتنا ومعارفنا العلمية والإجتماعية، وما نزيد به عن غيرنا من معرفة وخبرات وتجارب لا يمنحنا بأي حال من الأحوال، مبرر الشعور بإننا افضل من الغير، بل بالعكس، أذ من المفترض على الفرد المدرك لنفسه وللمجتمع الذي يعيش فيه، أن يرسخ علمه ومعرفته لخدمة الإنسان، وأن يسعى الى فعل ذلك، بتواضع ومحبة، فمن رفع نفسه وضعها ومن وضع نفسه رفعها.
لينا سياوش