المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس
الكومبس – مقالات الرأي: تقرب مني رجلا طاعن في السن وانا جالس في مكتبة مدينتي الجملية في الجنوب السويدي وقال لي بصوت خافت هل انت عربي ؟ اجبته مبتسما بالايجاب، انفرجت اسارير الرجل الذي انطلق لسانه للسلام والترحيب وعرفت منه انه من اللاجئين الجدد على هذه البلاد، هاربا من نار الحرب الذي اشتعلت في بلده الام .
ومن خلال النقاش والحوار استطعت ان المس كم من الهم والمعاناة التي يمر بها هذا الرجل . من هنا لابد من الوقوف على ما يؤرق تفكير الاسر العربية بصفة عامة في بلاد المهجر. وكيف خلق التكافؤ بين الواقع المعاش والذي يفرضه الشارع بكل ظروفه، وبين اخلاقيات اسلامية وتقاليد عربية تفرضها الهوية بشكل عام.
فالمغتربون يواجهون العديد من المشاكل الاجتماعية والتي ترفع من حدة الضغوطات على الاباء والابناء في نفس الوقت يختلف منحى التوجه العقلي للوالدين عنه بالنسبة للابناء، فأفكار جيل تختلف عن جيل لتبقى موجة الصراعات الفكرية متطورة بين الطرفين، فكل يصب في واد، وللأسف الشارع الغربي يفرض تقاليده وافكاره على ابناءنا في شتى المجالات وهذا ما يجعل التعلق بالاواصر العربية الاسلامية أمرا ليس بالسهل ، وهنا تبدأ المعاناة الحقيقية في تكوين عقلية الابناء لاحترام اخلاقيات بعيدة عن المكان المحيط لكنها راسخة بدم وعقل كل عربي ومسلم.
فالانحراف الاخلاقي والاجتماعي له حيز كبير في بلد الغربة والتيارات الفكرية غريبة بشكل جذري عن كل اصولنا العربية لنجد شبابنا يعيش تأرجحا وانفصاما داخليا بين قناعات اسرية يسمعها ويعيشها كلما التحق بالاسرة وبين واقع مختلف تماما عن كل ما يسمعه، وهنا يأتي السؤال الأهم والذي يجب ان تكون الاجابة عنه شافية حتى نستطيع الخروج من هذه الموجات ونجد الطريق الأنسب لإنقاذ هذا الجيل من كل هذه الانحرافات: ماهي قناعاتنا كآباء تجاه تعاليمنا الدينية والاخلاقية بشكل عام؟
لأن الإجابة على هذا السؤال ترمي بنا حتما الى اصلاح الذات قبل ان نبدأ في ارسال خطابات الارشاد والوعظ لابناءنا، ففاقد الشيء لا يعطيه !! فكيف للابن ان يسمع كلاما يرى عكسه في ثنايا اسرته … ابتعاد كلي عن تعاليم الدين مثلا ، كيف لهذا الابن ان يكترث لأب وأم غير مباليين ولا يقومان بأدنى واجباتهما الدينية صلاة او نهي عن المنكر وغيرها كثير و لا يشغلهما مصير الابناء وحتى ان شغلهما يكون بشكل غير واعي؟
فالامر يتطلب وعيا فكريا كبيرا لأن الصراع ليس فقط بيننا وبين ابناءنا بل صراعنا اكبر بكثير فهو صراع حقيقي مع مجتمع كبير، مجتمع غربي فرض علينا لأسباب لا حصر لها ، مجتمع مواجهته من الصعب ما تكون بكل اخلاقياتها سواء في المدرسة او الشارع، أفكار تناقض كل قناعاتنا واخلاقياتنا وهذا ما يجعلنا في محك بين فرض أواصر العلاقة الاسرية وبين المجتمع الغربي بكل ما فيه، السؤال هنا مهم كيف تكون العلاقة بشكل عام بين الاباء والابناء؟
العلاقة بشكل عام بين الآباء والأبناء في المهجر في الغالب تكون علاقة مشينة، لهذه الاسباب:
ـ سرعان ما يترك الابناء منزل العائلة وينفصلون بسكناهم ويذوبون في المجتمع الغربي ذوبانا خطيرا خصوصا من ليس لديه مرجعية دينية سليمة وتربوية واخلاقية يستند اليها اكيد سوف تتزايد معاناته، وكم من الآباء قاسى مرارة اخذه ابناءه الى الخارج وندم وتحسر لكن لم ينفعه ساعة ندم.
فالمطلوب منا لنخرج ابناءنا سالمين من غربتنا هو اداء واجب الرعاية والتربية الحسنة وخلق البيئة السليمة والالتزام الصحيح بالتقاليد العربية والاخلاقية وبيان الايجابي والسلبي للابناء بكلام هاديء وعقلانية والابتعاد عن التشدد معهم واخذهم باللين والحرص على استخدام ( اسلوب الاقناع).
دعت دراسة اجتماعية إلى اعتماد مبدأ التشاور والإقناع أسلوباً للعلاقات الأسرية بين الوالدين والأبناء، مؤكدة أهمية البعد عن توجيه الأوامر للأبناء والتشدد في ضرورة تنفيذها، وألا يعقبها نقاش حاد بين الطرفين، يزيد من تصدع الشقوق في جدار العائلة، وتجد أن أفرادها، غرباء يعيشون تحت سقف واحد، ينشغل كل منهم بحياته، ويقضي معظم وقته مع وسائل التكنولوجيا الحديثة.
ونبهت ردود أفعال ذات صلة إلى أهمية تقريب وجهات النظر بين الطرفين، لأن كلاً منهما، يرى أنه الأصح، حيث يؤمن الوالدان أن لهما الحقوق الكاملة في طاعة الأبناء، وعلى الرغم من عدم اختلاف الدراسة مع ذلك، لكنها نصحتهما، بالتقرب من الأبناء ومصادقتها، أفضل من التذمر ونهرهما، كما نبهت الأبناء إلى حسن معاملة الوالدين ونقاشهما في الأوقات المناسبة، مقترحة تكوين مجلس أسري يجمع الأسرة ويلم شملها. وبذلك ينشأ الشاب محصنا ضد كل التيارات والأهواء فالتربية أولا وأخيرا منذ الصغر فهذا هو الحل الانسب لخلق التوازن بين الواقع الغربي والواقع الاسري .
قال تعالى[ إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا ما بانفسهم ] فعلا هذا خير ما يقال قبل ان ننتظر حصادا مفرحا ونتائج تشرح القلوب لابد من ان ننطلق من انفسنا لابد ان نجعل ايماننا اقوى وعلاقتنا بديننا اكثر احتراما وتطبيقا، فالغربة تأخذ من وقتنا وتشحن اجسادنا تعبا كما تشحن عقولنا افكارا غريبة لكن …؟ حين نلقي نظرة على أوضاع المهاجرين العرب بعد إن نأخذ بنظر الاعتبار التباين في الأعمار والمستوى التعليمي والمهني والثقافي، ورؤية كل منهم وموقفه من الهجرة، ومنذ إن وطأة إقدام المهاجرين العرب أراضي الدول المضيفة لهم برزت أمامهم صعوبات جمة أولها هي مشكلة اللغة التي يفترض في كل الأحوال استيعابها والتحدث بها لتجاوز الكثير من المصاعب التي تواجههم في الحياة العملية والوظيفية والاجتماعية.
القضية الأخرى المهمة طرحت على شكل تساؤل هو كيفية التوافق بين الهوية الوطنية والهوية الجديدة للبلد المضيف ؟ مما وضع المهاجر العربي في ما يمكن تسميته ” إشكالية الهوية ” التي تحتاج إلى إعادة صياغة بالرغم ما عاشته من جدل صاخب في الفترة الماضية، ويمكن هنا أن تثار عدة تساؤلات منها ،هل من الضروري الإذابة والانصهار بشكل كامل في المجتمع الجديد كأساس لمتطلبات الهوية الجديدة ؟ كيف تكون صور الاندماج والتعامل مع النسق الجديد الذي يختلف عما كان يعيشه المهاجر قبل قدومه واتخاذ قرار الاستقرار في المجتمع ؟
هل تستمر ثقافة “الأنا أو الذات المطلقة ” لدى المهاجر العربي والمسلم ؟ وللوصول إلى إجابات مقنعة عن تلك التساؤلات وغيرها يجب في البداية ( فهم خصوصية الهوية الثقافية الوطنية ) للمهاجر ومدى تعارض هذه الهوية مع الثقافة السائدة في البلد المضيف التي لها إستراتيجية واضحة ومحددة للتعامل مع الثقافات الأخرى الوافدة ، وتعتمد الثقافة السائدة على ما يمكن تسميته بإستراتيجية “تدجين الثقافة الوافدة” وتبرز هذه بشكل جلي في البلد التي تستقبل موجات من الهجرات مختلفة الثقافة، وسياسية التدجين هذه تعتمد على :
أ- الصراع الاجتماعي : ومدى تقبل الآخر، ويبرز هذا الصراع بين الثقافة الوافدة من جهة والثقافة السائدة في المجتمع .
ب- القوانين الصادرة وفعاليتها في التعامل مع الثقافة الوافد كإفراد وجماعات والتي تسهم في تهيئتهم لممارسة دورهم في المجتمع.
ج- البرامج والفعاليات التي يمكن من خلالها تقبل مجتمع الدولة المضيفة للمهاجرين وثقافتهم .
وهنا يمكننا ملاحظة بان هناك صراع لا يتوقف، صراع متحرك متجدد وفق العوامل الموضوعية والتاريخية التي تحكم هذا الصراع الذي يعتمد بالدرجة الأساس على مفهومين من اجل تقبل “المهاجرين الجدد”في النسق الاجتماعي للبلد المضيف، والمفهومان هما :
1- الأول هو الاندماج : الذي جاء تعريفه في المختار الصحاح ، دمج الشيء , أي دخل في غيره واستحكم فيه وادمج الشيء لفه في ثوبه، وفي القاموس المحيط، دمج دموجاً ، دخل الشيء واستحكم فيه كاندمج وادمج .قال : والتدامج التعاون، يقول اندمج وادمج بتشديد الدال إذا دخل الشيء في الشيء، واستتر فيه ، وأدمجت الشيء إذا لففته في ثوب .
وجاء في القواميس الغربية تعريف كلمة Integrate : أن تجمع شيئين إلى حد أنهما يعملان معاً”، أو تجعل شخصاً مقبولاً كعضو في جماعة اجتماعية خاصة إذا كان هذا الشخص ينتمي إلى ثقافة مختلفة.
من الملاحظ أن التعريفات اللغوية تصب في قالب واحد ألا وهو جعل الشئ المراد دمجه في الآخر كأنه لم يكن حيث يفقد خواصه ومميزاته ولذلك جاءت التفسيرات اللغوية بمعنى دخل في غيره واستحكم فيه وهذا المعنى ما توحيه كلمة الاندماج.
2- الثاني : الانصهار والذوبان ، بمعنى تزايد معدلات الاندماج إلى درجة فقدان الهوية والانسلاخ من الماضي ومن ثم الذوبان والانصهار تماما في المجتمعات الجديدة ، وبمعنى آخر هو محو كل معالم الثقافة المهاجرة.
من هنا سعت كل الدول التي تستقطب المهاجرين إلى خلق الآليات ضرورية لاستيعاب المهاجرين من خلال خلق نوع من التفاعل بين الثقافة السائدة والثقافات المهاجرة بهدف خلق منتوج ثقافي جديد يتضمن
أولا:- تنوع منظومات القيم والأفكار والإبداع.
ثانيا:- خلق حالة من التواصل الدائم بين الثقافات.
ثالثا:- إيجاد صيغة من التفاعل المطلوب بين الثقافات وليس الصدام بينها.
رابعا:-توفير الشروط والظروف الضرورية من اجل الاندماج السليم في المجتمعات الجديدة.
لابد دائما من العودة الى المرجعية الحقيقية التي تجمعنا كعرب ومسلمين مهما اختلفت اوطاننا فمن كان قريبا من القيم والاخلاق السوية البعيدة عن التطرف والتشدد فلا خوف عليه ومن ابتعد عنها فلا ينتظر ما يسره هذا ما يجب ان نقتنع به و نقنع به أبناءنا و أحفادنا ، يجب ان نخلق الجو الأسري السليم يجب أن نكون صورة مشرفة لأخلاقنا العربية والاسلامية حتى نكون المرآة التي يرى فيها ابناءنا وجوههم بعيدا عن زيف واقعهم ، فأكبر نجاح هو التربية السليمة لهذا الجيل وأكبر تحدي هو الخروج بأبناءنا سالمين من أجواء الغربة التي فرضتها علينا ظروف الحياة الصعبة وياله من تحدي !! تربية سليمة واستقرار مادي هذا هو المبتغى الذي يجب ان نرسمه امامنا.
داود الجنابي
المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس بالضرورة عن الكومبس