الطفل مرهف حميد و”تجربة اجتماعية” غير مقصودة!

: 5/5/23, 10:40 AM
Updated: 5/5/23, 10:40 AM
الطفل مرهف حميد و”تجربة اجتماعية” غير مقصودة!

المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس

الكومبس – رأي: قد يبدو مألوفاً عندما يقوم أحد المتخصّصين بتجربة اجتماعية لغرض البحث العلمي، لكن من غير المألوف عندما يصبح طفل ما “تجربة اجتماعية” من غير قصد. هذا ما حدث فعلاً مع “مرهف حميد” الطفل ذي الاثني عشر ربيعاً بعد أن واجه سلوكاً عنصرياً تم تجسيده في تغريدة على منصة تويتر، فكان بمثابة تجربة اجتماعية صنعتها الصدفة، ثم قابلها المجتمع السويدي باستجابة عفويّة لم تكن مقصودة أيضاً. وسبق هذا السلوك قيام مرهف ببيع زهرة مايو(majblomma)، وهذا النشاط جزء من “مشروع زهرة مايو” الذي لا يعدو كونه تقليداً مدرسياً ومشاركة تعاونية تتكرر كل عام في الربيع. إذ يقوم الطلاب ببيع زهورهم بهدف مساعدة الطلاب المحتاجين مقابل حصولهم على نسبة من المال. ويبدو أن هذا الطفل -طالب اللجوء- قد أنصفه القدر حين حطم الرقم القياسي في مبيعاته وحصل على مبلغ جعله يشعر بأن حُلماً من أحلامه قد تحقّق بالفعل.

ربما كان هذا الحدث مع الطفل “بائع الزهور” سيمرّ بشكل طبيعي، لولا أنه أثار حفيظة إحدى عضوات حزب ديمقراطيي السويد والتي كتبت عنه تعليقات عنصرية مسيئة. فما كان من المجتمع الذي طالما أعلن عن رفضه للعنصرية والتطرف إلا أن انتقد سلوكها هذا كما أعلن عن دعمه للطفل. ولم يخلُ هذا الموقف من حضور “مجدلينا أندرشون” رئيسة الحزب الاشتراكي الديمقراطي المعارض ورئيسة الحكومة السابقة التي أيّدت الوقوف بوجه الكراهية، وردّت على تجاوزات أعضاء حزب SD التي أصبحت تتصّدر الموقف في كل مناسبة كما وصفت هذا السلوك بأنه يفتقر إلى الاحترام في تعامله مع الآخر.

ومع ذلك فما يزال هناك وجه آخر للمجتمع يطل علينا من بين صورة ضبابيّة واتجاه سياسي واضح لا يُخفي عنصريته المزعجة! وقد كان سابقاً يبدو لطيفاً للغاية ويعكس سمة اجتماعية إيجابية يتصف بها المجتمع السويدي. إلا أنه بدا أكثر وضوحاً الآن وتعلوه ملامح قاسيّة تكشف عن كراهية بغيضة عند البعض، طالما اختفت خلف أخلاقيات وقوانين الحزب الاشتراكي الديمقراطي المعتدل التي حظيت بمباركة الأحزاب الأخرى. لكنها سرعان ما بدأت تظهر بعد أن تلاشى ضباب الانتخابات وبعد فوز حزب ديمقراطيي السويد المتطرّف ”SD”.

والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا الوقت: هل سيُسفر المستقبل القريب عن الوجه الآخر؟! وهل ستكشّر هذه “العنصرية” عن أنيابها بكل صَلَف، بينما يغرق المهاجرون في غيبوبتهم المُزمِنة، اللاواعية؟!

كاختصاصيين علينا أن نهتم بما يحدث وأن نسجّل الظواهر التي تتعلق بظروف المهاجرين، كالاغتراب وضعف التوافق النفسي والاجتماعي من خلال الملاحظة الدقيقة لمختبر الواقع. علينا أن نُخضِع تلك الظواهر لمبضع الملاحظة والتحليل مع محاولة جادّة لإزاحة “الأنا” بما تحمله من عاطفة، والتعامل معها بموضوعيّة. سنجد أن هناك سلوكاً ظاهراً وما وراء السلوك، بمعنى أن المجتمع بدأ فعلاً يتغيّر بعد فوز أحزاب اليمين. وبتأثير الحزب العنصري الحاكم الذي لاينكر انزعاجه الجاد من وجود المهاجرين، فإن هذه التغييرات السياسية تبدو سريعة وواعية لنوع القرارات التي سرعان ماسيتم تطبيقها. وستعمل بدورها على تضييّق الخناق على الفرد المهاجر وإن كان سويدي الجنسيّة.

يتوقّع البعض الفشل لهذه الأحزاب فهي وفقاً لإدراكه لاتنسجم وطبيعة المجتمع السويدي الذي يتسم باللطف والتحضّر في تعامله مع الغرباء، ولا يحبّذ العنصرية. ولكن هؤلاء أغفلوا مكنونات الطبيعة البشريّة التي أعلنها “فرويد” لأول مرّة في بداية القرن العشرين بكل جرأة وشجاعة، بما يكتنفها من رغبة عارمة في الحياة والاستئثار بها على حساب دمار الاخر وفنائه، وما لهذه الرغبة أو “الغريزة” من تأثير على السلوك الفردي والجمعي لأولئك الذين يؤمنون بالأفكار العنصرية المتطرّفة. فإن استمرت هذه الظاهرة “العنصرية” ومع استمرار هذا الحزب أيضاً بتأثيره الكبير في الحكومة، وبتلقِّيه الدعم من مؤيديه سيتحول هذا السلوك إلى جزء فعّال في اللاشعور الجمعي وفق نظرية كارل يونغ. وأتوقّع أن هذا “الحزب المتطرّف” يسجّل حينها هدفاً منطقيّاً، واقعياً ومؤلماً في شبكة العائلة المهاجرة، هذه العائلة التي طالما تنفّست نسمات الحريّة والأمان اللذين فقدتهما في وطنها الأم. ولكن هذه الحريّة توصف بأنها نسبيّة بحسب ما تشعر به العائلة من “فوبيا” خسارة الأطفال وحَيرة التربية المشروطة بالقانون وفق مبدأ “أن الطفل تحت عين الدولة والقانون”، وهذا ما جعل العائلة في وضع مأزوم ومُزمِن. فضلاً عن ارتباط هذه التغييرات السياسية بخلق أزمة جديدة تتعلّق بتراجع الشعور بالأمن النفسي والاجتماعي لكلا الفرد والعائلة.

أمّا عن استجابة الفرد المسلم عموماً والعربي خصوصاً فلا أظن أنه يمتلك الحلول أو حتى أنه يفكّر فيها، طالما أنه ما زال بعيداً كل البعد عن الأخذ بزمام التحدّيات الجديدة التي تتعلق به وبأسرته بشكل مباشر.

ولا أبتعد كثيراً عن الواقع إن أشرت إلى ازدواجية المجتمع السويدي، عندما تُعلِن مؤسساته الرسميّة مراراً وتكراراً عن أهمية “الاندماج” والحث عليه في أوساط المهاجرين بينما تكتنف هذه المؤسسات بيروقراطية مملّة في جميع نشاطات هذا الاندماج. فضلاّ عن الصعوبات التي تواجه الفرد في أماكن العمل ومنها استبعاده بقصد أو من غير قصد، وهذا مثير سلبي ينتج عنه استجابة سلبية جوهرها العزلة بدلاً عن الانسجام في بيئة العمل. فقد يصدر موقف من البعض فيعكس صفة عنصرية تقرؤها أنت كمقيم أو مواطن من أصل غير سويدي في سلوكه رغم أنك زميله وتعمل معه، فضلاً عن سلوك التعالي الذي قد يميل إليه البعض الآخر لمجرد أن شهاداتك بلغة أخرى فتُعامل خبراتك بلا مبالاة. أتساءل كيف إذاً سيشعر المهاجر البسيط الذي يفتقر الى اللغة والاندماج؟!

ومن المؤلم ما يقرأه الواقع الاجتماعي من وجود مجموعة من الأفراد من أصول مهاجرة غير سويدية ومع ذلك تجدهم أكثر عنصرية وكراهية لنا من غيرهم. كما صدر عن رشيد فاريفار النائب في حزب ديمقراطيي السويد قائلا في تويتر: “كأنني في إيران او الشرق الأوسط” بمناسبة احتفال المسلمين في أيام عيد الفطر وقد جاءت هذه التغريدة منسجمة مع الاستجابات السلبية للجماعة المتطرفة عندما أزعجتهم طقوس الصلاة والاحتفالات التي انتشرت في أكثر من مدينة سويدية. كما شكّلت تهنئة رئيس الوزراء أولف كريسترشون استثارة نتج عنها انتقادات يمينية متطرفة ملؤها الخوف مما قد تؤدي إليه هذه الأعداد المحتفلة من تغيير اجتماعي في المجتمع السويدي . وفي مقابل هذه الفئة التي تعاني من اضطراب في هوية الذات وازدواجية اجتماعية، فإن هناك نسبة كبيرة من الأفراد الذين لديهم مكانة علمية وعمليّة وعليهم أن يُبادِروا إلى تأكيد حضورهم ورفع أصواتهم ليصبحوا أكثر فاعليّة في المجتمع.

ومع أننا قد ننجح في تشخيص الواقع بما فيه من ظواهر اجتماعية مريضة ونطرح التساؤلات، فإننا لا ندّعي امتلاك الحلول الجاهزة. لأنها مهمة الجميع بما فيهم أهل الاختصاص والمثقفون من ذوي الصوت المسموع والكلمة المكتوبة، من ذوي الأصول المهاجرة الذين ستطالهم العنصرية بكل تأكيد ومن سيدفع ثمنها الأجيال القادمة من أبنائنا وبناتنا الذين أصبحوا ينتمون لثقافة هذا المجتمع، وأحلامهم أيضاً تلك التي ولدت هنا ليصنعوا المستقبل. لسنا نحن من يقرّر عنهم وعلينا أن نتوقف عن فرض انتماءاتنا القديمة عليهم عنوة ودون تفكير. علينا كآباء وأمهات أن نواجه مشكلاتنا في تعلّم اللغة، أن ننتمي لهذا الواقع بدفع الإحباط ومواجهة هذه العاصفة “العُزلة والإنكفاء” من أجل أنفسنا ومن أجل أطفالنا.

أخيراً، فالطفل مرهف ونحن لسنا “تجربة اجتماعية” تنتظر الاستجابات العنصرية لمجرد اختلافنا ثقافياً. ولسنا أجساداً عارية تقف في تلك التجربة فتتلقّفَها أيادٍ عابثة لنفوس مدفوعة بوعي أو بلاوعي بكراهية الآخر، بل نحن جزء اجتماعي حيوي ساهم وما زال يساهم في بناء هذا المجتمع الذي طالما أحببناه، تمسكنا بقوانينه واحترمنا نظامه. ولا ننسى بأن الظواهر السلبية لا تلتصق بفئة دون غيرها كما يزعم المتطرفون، ولا ينبغي التعميم لا سيما أن من سيدفع ضريبة العنصرية المجتمع بكليّته وليس فئة بعينها، من هنا على الجميع مواجهة هذا التغيير الاجتماعي السريع والخطير -متمثِّلاً بالعنصرية والتطرّف- ليبقى مجتمعاً إنسانياً متحضّراً نفخر به جميعاً.

د. سناء الخزرجي

Alkompis Communication AB 559169-6140 © 2024.