سوريا

العقد الاجتماعي وسوريا الجديدة.. رؤية مقارنة لبناء المجتمعات

: 12/18/24, 4:24 PM
Updated: 12/18/24, 4:24 PM
العقد الاجتماعي وسوريا الجديدة.. رؤية مقارنة لبناء المجتمعات

المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس

الكومبس – رأي: في أوقات التحولات الكبرى، غالباً ما يُطرح سؤال محوري: كيف يمكن بناء مجتمع متوازن وعادل؟ هذا التساؤل يتجدد اليوم مع تصريح قائد العمليات المشتركة التي أطاحت في 8 ديسمبر الماضي، بالنظام السوري، حول نيته تأسيس مجتمع يقوم على “العقد الاجتماعي”. فكرة العقد الاجتماعي ليست وليدة العصر الحديث؛ جذورها تمتد في التاريخ، حيث تجلت في أشكال مختلفة، بدءاً من صدر الإسلام وصولًا إلى عصر التنوير الأوروبي. وبينما يمثل العقد الاجتماعي رؤية فلسفية عميقة لتنظيم العلاقة بين الفرد والمجتمع، فإن تطبيقه يحمل إيجابيات وسلبيات تختلف بحسب السياقات التاريخية والثقافية.

العقد الاجتماعي في صدر الإسلام

في صدر الإسلام، لم يُطرح مفهوم العقد الاجتماعي بمصطلحاته الفلسفية المعروفة اليوم، لكنه تجلى عملياً في الشريعة الإسلامية ونظام الحكم الذي أسسه النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) والخلفاء الراشدون من بعده. كان العقد الاجتماعي في الإسلام قائماً على:

البيعة: وهي اتفاق بين الحاكم (أو القائد) والأمة، حيث يتعهد الحاكم بالعدل وتطبيق الشريعة، في مقابل طاعة الأمة ضمن حدود الشرع.

الشورى: مبدأ المشاركة في اتخاذ القرارات العامة، بما يشبه الديمقراطية المبكرة.

الحقوق والواجبات المتبادلة: حيث يضمن النظام الإسلامي حقوق الفرد، بما في ذلك الأمن، الحرية الدينية، وحماية الممتلكات، بينما يتحمل الفرد مسؤولية الالتزام بالقوانين واحترام النظام العام.

مثال على ذلك، وثيقة المدينة التي وضعها النبي، والتي تُعتبر نموذجاً مبكراً لعقد اجتماعي ينظم العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين داخل الدولة الإسلامية الناشئة، ويضمن حقوق المواطنة للجميع.

العقد الاجتماعي في عصر التنوير

في القرن السابع عشر والثامن عشر، قدم فلاسفة التنوير مفهوم العقد الاجتماعي كإطار نظري لفهم الدولة وشرعية السلطة. أبرز هؤلاء الفلاسفة:

توماس هوبز: رأى أن العقد الاجتماعي ضرورة لحماية الأفراد من “حالة الطبيعة” التي تتسم بالفوضى والعنف.

جون لوك: أكد أن العقد الاجتماعي يهدف إلى حماية الحقوق الطبيعية (الحياة، الحرية، الملكية).

جان جاك روسو: ركز على “الإرادة العامة”، حيث يتم الاتفاق بين الأفراد على قوانين تحقق الصالح العام.

العقد الاجتماعي في الفكر التنويري هو عقد وضعي وعقلاني، يتم بين أفراد مستقلين، يختارون فيه نظام الحكم بشكل حر، ويحددون صلاحياته وواجباته.

إيجابيات العقد الاجتماعي: صدر الإسلام مقابل عصر التنوير

في صدر الإسلام:

1. ⁠عدالة شاملة: كانت الشريعة الإسلامية هي المرجعية العليا، ما ضمن المساواة بين الجميع أمام القانون.

2. ⁠التوازن بين الحقوق والواجبات: حقوق الأفراد محمية، شرط التزامهم بالواجبات الشرعية.

3. ⁠التعددية: أتاح النظام الإسلامي للأقليات الدينية العيش بسلام في إطار “عقد ذمي” يكفل حقوقهم مقابل الالتزام بالقوانين العامة.

4. ⁠المرجعية الإلهية: أعطت الشريعة طابعاً مقدساً للعقد، مما عزز الالتزام به.

في عصر التنوير:

1. ⁠حرية الفرد: ركز العقد الاجتماعي على الحرية الفردية كأساس للدولة.

2. ⁠شرعية السلطة: ترتكز على إرادة الشعب، وليس على نصوص دينية أو تقاليد وراثية.

3. ⁠المرونة والتطور: العقود الوضعية قابلة للتعديل بما يتناسب مع تطورات المجتمع.

4. ⁠التعددية الفكرية: تتيح للمجتمع تنوعاً في الآراء والأيديولوجيات.

سلبيات العقد الاجتماعي في كلا السياقين

في صدر الإسلام:

1. ⁠الاختلافات في التطبيق: رغم المبادئ العادلة، كان التطبيق يتأثر أحياناً بسلوك الحاكم أو الظروف السياسية.

2. ⁠مرجعية الشريعة: قد تُفسَّر بشكل متباين، ما يؤدي إلى خلافات حول القوانين والتطبيقات.

3. ⁠الدولة والدين: ارتباط الدولة بالشريعة جعل من الصعب فصل السلطة السياسية عن الدينية، ما قد يثير حساسية لدى بعض الفئات.

في عصر التنوير:

1. ⁠الفردية المطلقة: تركيز العقد التنويري على الفرد أحياناً أدى إلى إضعاف الروابط الجماعية.

2. ⁠إقصاء الدين: فصل الدين عن الدولة في بعض النماذج أثار اعتراضات لدى المجتمعات ذات الهويات الدينية القوية.

3. ⁠التطبيق الواقعي: رغم المثالية النظرية، فشلت العديد من الدول في تطبيق العقد الاجتماعي بشكل عادل، حيث استُغلت السلطة لتحقيق مصالح النخب.

تداعيات العقد الاجتماعي على المجتمع السوري

مع تصريح قائد العمليات المشتركة السورية، عن بناء مجتمع قائم على العقد الاجتماعي، تبرز أسئلة حول كيفية التوفيق بين النسختين الإسلامية والفلسفية لهذا المفهوم.

الإيجابيات المحتملة:

تأسيس عقد اجتماعي يتبنى مبادئ الشورى والعدالة الإسلامية، مع دمج حرية الأفراد والمساواة التي يركز عليها العقد التنويري، يمكن أن يُحدث توازناً بين قيم المجتمع السوري التقليدية ومتطلبات الحداثة.

إعادة بناء الثقة بين مكونات المجتمع المختلفة (العرب، الأكراد، الأقليات) من خلال ضمان تمثيلهم جميعاً.

التحديات:

التنوع الطائفي والعرقي: المجتمع السوري متعدد الطوائف والأعراق، ما يجعل الوصول إلى عقد اجتماعي جامع مهمة صعبة.

التدخلات الخارجية: سوريا ساحة تنافس إقليمي ودولي، ما قد يعيق أي محاولات للاستقلالية في صياغة عقد وطني.

الثقافة السياسية: بعد عقود من الاستبداد، يحتاج السوريون إلى بناء ثقافة سياسية جديدة تقوم على الحوار والمشاركة.

هل يمكن بناء عقد اجتماعي جديد في سوريا؟

العقد الاجتماعي، سواء بنسخته الإسلامية أو التنويرية، يمثل رؤية واعدة لإعادة بناء المجتمعات على أسس العدل والمساواة. في سوريا، يمكن الاستفادة من المبادئ الإسلامية مثل الشورى والعدالة، مع تبني الأفكار التنويرية مثل فصل السلطات وسيادة القانون.

لكن النجاح في تطبيق هذه الرؤية يعتمد على قدرة القيادة على تحقيق التوازن بين إرث الماضي وتحديات الحاضر، وإيجاد صيغة تُلبي تطلعات الجميع. هل تستطيع سوريا أن تجمع بين الحكمة الإسلامية والعقلانية التنويرية لبناء مستقبل أفضل؟ سؤال يفتح المجال للتفكير والحوار في الوقت ذاته.

فاروق الدباغ

Alkompis Communication AB 559169-6140 © 2025.
cookies icon