يبدو أن ردود الفعل الدولية على حجم الكارثة الإنسانية التي يعيشها قطاع غزة، وصور الدمار والقتل بجميع أنواعه، من التجويع إلى استهداف مراكز توزيع الطعام، مرورًا بالتدمير الشامل لكل مرافق الحياة، لم تُعطِ أي إشارة عن نية الحكومة الإسرائيلية في تغيير سلوكها. بل على العكس، يريد نتنياهو الآن، وبكل برودة أعصاب، المزيد من الوقت لإنجاز مهامه المُعلنة وغير المُعلنة، خاصة تهجير السكان ضمن استراتيجية التطهير العرقي. هنا يمكن أن نتذكر المثل الشعبي: “يا فرعون، من فرعنك؟ قال: لم أجد من يردعني”.
فرعنة نتنياهو ووزرائه من اليمين المتطرف تزداد، ليس فقط لأنه لا يجد من يردعه، بل لأن هناك من يشجعه، إما من خلال الدعم المباشر أو عبر الصمت الذي يتحول مع الوقت إلى “عمى أخلاقي”. حالات العمى الأخلاقي منتشرة الآن، وموجودة حتى في السويد.
شهدنا مؤخرًا تحولًا معقولًا في موقف الحكومة السويدية تجاه حجم الجرائم التي ترتكبها الحكومة الإسرائيلية في قطاع غزة. فقد أعلنت وزيرة الخارجية، ماريا مالمير ستينرغارد، أن السويد ستدفع باتجاه أن يُجمّد الاتحاد الأوروبي اتفاقه التجاري مع إسرائيل. وفي الوقت نفسه، نشر كل من رئيس الوزراء أولف كريسترشون ووزير التجارة الخارجية بنيامين دوسا منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، أكدا فيها أن الحكومة تريد زيادة الضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو وحكومته. فيما ذهب الوزير دوسا إلى وصف الحصار الإسرائيلي للمساعدات الإنسانية بأنه “وسيلة حربية” يمكن أن تُشكّل جريمة حرب، وسيلة أدت إلى تهديد سكان غزة بالمجاعة.
هذا التحول، الذي طال انتظاره، لم يُعجب حزب SD الداعم للحكومة. وكما هو متوقع، سارع رئيس الحزب جيمي أوكيسون إلى الصراخ بوجه هذا التحول، الذي وصفه بـ”الكارثة”، وتذمّر نواب محافظون ومسيحيون ديمقراطيون علنًا
عبر عدة تصريحات، ومن خلال مقال نُشر في صحيفة إكسبرسن يوم الاثنين 4 أغسطس، شارك به زميل أوكيسون في الحزب ورئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان آرون إميلسون، حاول المقال تبرير هذا الرفض. المقال ليس فقط مليئًا بالمغالطات التاريخية والواقعية، بل يمكن اعتباره محاولة لجرّ السويد إلى عزلة دولية، ويدفع نحو وضع السياسة الخارجية السويدية تحت نهج ترامب الذي يتناقض مع التوجهات الأوروبية. والأدهى من ذلك، أنه يصف الدعوة إلى تجميد اتفاقيات الاتحاد الأوروبي التجارية مع إسرائيل بأنها عمل غير أخلاقي، بينما يمارس هو نفسه “العمى الأخلاقي” ليتفادى النظر إلى ما يحدث من تجويع وقتل ممنهج لجميع سكان غزة .
إذاً، صراخ جيمي أوكيسون وحزبه غضبًا من الحكومة شيء متوقع كما قلنا. لكن ما هو غير منطقي وغير متوقع هو انتقاد توجهات الحكومة السويدية الجديدة إزاء ما يحدث في غزة، من قبل إيبا بوش، التي هي في نفس الحكومة، بل هي نائبة رئيس الوزراء. حيث نشرت بوش منشورًا على فيسبوك أعربت فيه، بكلمات مبهمة، عن أسفها لـ”التركيز الأحادي على إسرائيل”، وهمهمت بوش بتصريحات ركيكة وغير موفقة، مثل: “إسرائيل تُقدّم خدمة للعالم أجمع… بشنها حربًا على حركة حماس الإرهابية”. لكن الناس الغاضبين من مشاهد تجويع الأطفال، وقتل المدنيين، وتدمير المرافق العامة، وتحويل القطاع كله إلى دمار، وضعوا هذه الصورة الحقيقية والواقعية عمّا يحدث في غزة إلى جانب تصريحها حول ما تقدمه إسرائيل من خدمة للعالم أجمع، مما أثار غضب بوش التي اعتبرت أن ثقافة الشرق الأوسط هي الطاغية على الحوار، متغاضية عن تعليقات الكراهية التي ينشرها بعض ناخبي أحزاب تيدو
بوش انتقلت أيضًا إلى اقتراح نقل السفارة السويدية من تل أبيب إلى القدس، وكأنها تريد مكافأة حكومة نتنياهو على ما تقوم به هذه الحكومة في قطاع غزة. وكأنها لا تعرف أن نقل السفارة هو تناقض صارخ مع مواقف السويد والاتحاد الأوروبي وقرارات الأمم المتحدة.
تصريحات إيبا بوش، التي يعاني حزبها من تدهور كبير في شعبيته حسب آخر استطلاعات الرأي، يمكن وضعها ضمن محاولات تمييز نفسها وتسليط الضوء على مواقف خارجة عن السياق، ومخالفة حتى للحكومة التي هي جزء منها، وذلك مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي. ولكن، هل تدرك بوش أن ما تفعله يضر حتماً بالسياسة الخارجية للسويد، ويؤثر على المصداقية الدولية لهذا البلد، الذي كان في طليعة المدافعين عن حقوق الإنسان، وعن الحريات والديمقراطية في العالم؟ خاصة أن هذه التصريحات، وهذا الشرخ في الحكومة، يمكن أن يؤديا إلى وقوع السويد فعلاً في خطر المهزلة السياسية، مع انتشار حالات “العمى الأخلاقي” لبعض السياسيين ممن لا يريدون مشاهدة الحقيقة.
محمود آغا