المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس
الكومبس – رأي: تروي الحكاية أن شخصاً فصامياً محشوّاً بالكراهية وإقصاء المختلف، مهووساً بالسلطة التي حاول الوصول إليها عبر بوابة برلمان بلاده في الدنمارك وقد هيّأ لنفسه برنامجاً سياسياً يقوم على إهانة الإسلام والمسلمين، تلك الأمة التي تزيد عن المليار ونصف المليار ببضعة مئات من الملايين، ففشل فشلاً منكراً أمام الصناديق الانتخابية، وسريعاً ما حصل على جنسية سويدية (إضافية) ليعيد فيها سيرته الأولى.
في كل عام، يقوم بجولات مكوكية بين ولايات السويد التي تزيد مساحتها عن 450 ألف كيلو متر مربع، وبحماية أجهزة الدولة التي تبدو حارساً أميناً له (بودي غارد) ليحرق القرآن الكريم على مرأى ومسمع المسلمين. لا يمكن الركون لما يتناقله ساسة السويد حول ضرورة حمايته ليمارس حريته بالتعبير عن رأيه في بلد ديمقراطية تقدس قوانينها، لا يمكن احترام حكومةٍ تدعم مهووساً أخرق موتوراً، ضد مشاعر مئات الملايين في العالم، ومئات الآلاف من المقيمين على أرضها وحملوا جنسيتها وساهموا في دفع عجلة اقتصادها وجعلوها بلداً أكثر اجتماعيةً قابلاً للحياة بعد أن كانت قبل العقدين الأخيرين ليس فيها سوى الغربان والنوارس، لذا فقد بدا الرجل بالنسبة لي أكبر من دولةٍ منصاعةٍ لهوسه وكراهيته وعنصريته، ومع تغير القيادة السياسية التي تسلمها حزب اليمين الذي يرغب بتغيير سياسة الدولة تجاه المهاجرين، فقد وجدوا في بالودان أداةً لتوريط مجموعة هائلة من المهاجرين المسلمين لزجهم في السجون بأحكام قضائية مسيسة تتراوح بين خمس إلى سبع سنوات سجن مقابل حمل حجر ورميه لا على التعيين، أو لمجرد حمله كما أثبتته الكاميرات التي وضعوها سلفاً لتغطية الحدث مما يثير لدى الكثيرين الشك بأن الحكومة نصبت فخاً لرعاياها مستخدمةً بالودان كرأس حربة لكي تحرم هؤلاء المساكين من جنسياتهم وإقاماتهم وتسجنهم سبع سنوات في جنحة يقر القانون بأن حكمها لا يتجاوز الشهر سجن!!
رفع عتب!!
تناقلت وسائل الإعلام ردود أفعال بعض الدول على قيام راسموس بالودان زعيم حركة سترام كورس اليمينية المتطرفة بحرق المصحف الشريف أمام السفارة التركية يوم السبت 21 كانون الثاني 2023، لكن العالم صمّ أذنيه عن تداعيات كارثة إنسانية حقيقية جرت في رمضان الفائت يوم 16 نيسان 2022 وما تلاه من خراب.
في التفاصيل!!
إنه رمضان في قلب منطقة فيفالا التي تعتبر معقل الإسلام والمسلمين في مدينة أوربرو حيث المسجد الجامع الأكبر في الولاية وسط السويد. الجو محتقنٌ للغاية، بعد أن انتشرت الأخبار الرسمية بكثافة عن نية راسموس إحراق نسخة من المصحف الشريف عشية ليلة القدر المقدسة، وبين الأهالي الذين يمارسون عباداتهم الرمضانية. وقف راسموس محاطاً بالشرطة، تحميه من كل جانب وبدأ بإعداد عدته وهو ينقل نظراته بين الشباب الصائم بكثير من الاستفزاز. شعر الصائمون بغيرة شديدة تجتاح نزعاتهم، انبرى أربعة أطفال وأشعلوا النيران في سيارتي شرطة ولاذوا بالفرار، بينما شحذ الشباب الأكثر نضجاً، هممهم وقالوا: لا بأس برمي حجر لا على التعيين، فقط لممارسة حقنا بالتعبير عن استنكارنا الشديد لأن يُهان ديننا في صميم الصوم، وعلى بعد أمتار من المسجد الجامع الأهم. كلمات بسيطة، قالها، شبابٌ محبط يائس، يعمل ليل نهار ليؤمن متطلبات اندماجه في مجتمع لا يحترمه، ليدفع فواتيره التي ينوء بها كاهله طوال الشهر، ليكون فاعلاً في بلاد تطالبه بأن يكون مجرد آلة، تحفظ القوانين وتلتزم بها ومنها بالطبع، قبول إهانة الإسلام بنفسٍ صاغرة راضية، تلك القوانين الفضفاضة التي تمنحها لأناسٍ دون آخرين، القوانين التي منحتها لراسموس ليهين بها أمةً!!
للكعبة ربٌ يحميها، أنا رب هذا الغنم
قصةٌ نرويها لمن لا يعرفها، لندلل على أن مقالتنا لا تهتم بالدفاع عن الإسلام الذي يعيش أزهى حالاته بفضل من الله، ولا عن المسلمين الذين يتزايدون ويثبتون رغم الملمات التاريخية به، لكن المقالة تأخذ على عاتقها السعي للإفراج عن مئات المعتقلين بأحكام جائرة تصل إلى سبع سنوات سجن. عندما أتى أبرهة الأشرم ملك الحبشة، جالباً فيلته الجبارة العملاقة وجيشه الجرار لهدم الكعبة، جمع عبد المطلب (جد النبي محمد) أغنامه محتمياً في الجبال، عاتبه قومه: أتترك البيت العتيق وتهتم بأغنامك؟ أجابهم بنفس قانعة مطمئنة: للبيت رب يحميه، أما أنا فرب هذا الغنم.
ديمقراطيةٌ بعينٍ واحدة، وقضاء مسيّس، فما الهدف؟
معظم الشباب الذين تظاهروا للتعبير عن استنكارهم لحرق القرآن الكريم، ثم تطور اندفاعهم فحملوا أحجاراً ورموها ناحية حارق القرآن ولم يصيبوه، كانوا قد اتخذوا قراراً شخصياً بأنهم مستعدون للسجن شهراً أو شهرين (كما هو القانون) في مقابل القيام بواجبهم بالاستنكار ولو برمي حجر في الهواء، وعلى هذا، شارك ما يقارب الثلاثمائة شاب بالتظاهر والاستنكار ورمي الحصى، ليفاجأ الجميع لاحقاً، والشرطة تداهم بيوتهم بقسوة وعنف وعدم احترام لدرجة أنهم لم يحترموا حجاب النساء وسترهن عندما داهموا بيوت الشباب لاعتقالهم، حيث حكم عليهم بالسجن مدداً متفاوتة، أقلها خمس سنوات، وتصل إلى سبع في حالات أخرى، وهذا كله مقابل حجر، لا يسمن ولا يغني من جوع!!
أثبتت الحادثة أن الحكومة كانت قد أعدّت كاميرات وهيأت ساحة الأزمة وروجت للفعل الجبان الذي سيقوم به راسموس في معقل المسلمين، بهدف تحشيد غضبهم ضده، واستدراجهم لهذا الفعل ومن ثم الإيعاز للقضاء لإصدار أحكام (إرهاب دولة) بدل اعتبار الحادثة مجرد مشاجرة او مظاهرة شغب، وذلك تلبيةً لتطلعات الحكومة الجديدة التي ترأسها حزب اليمين العنصري الذي يسعى لطرد المهاجرين وتغيير واقع البلاد.
الأزمة التي حفرت عميقاً
وصل محمد إلى السويد مطلع العام 2013 حيث كان طفلاً تحت السن القانوني. سريعاً ما لحقت به عائلته وقد اعتبرت أن السويد أصبحت موطنها الذي يجب عليها أن تخدمه وتقدم له كما يقدم لها. وحيث أن محمد تعلم اللغة وانخرط في المجتمع، فقد جمع والده ما استطاع من أموال كي يفتتح له شركةً غذائية محترمة. وفي أحد الصباحات، تداهم الشرطة شركته، وبيت أهله، وبيته، بدون أدنى احترام للنساء اللاتي لم يسمح لهن حتى بارتداء الحجاب أو ستر أجسادهن أثناء المداهمة وتفتيش البيوت. كان والد محمد قد علم أن الشباب الذين تم اعتقالهم قد حصلوا على حكم بالسجن حتى سبع سنوات، وبالطبع لن يحصل هؤلاء على جنسية فيما بعد، فقد قرر القرار الذي يماثل تجرع السم. فضّل تهريب ولده إلى خارج السويد والعودة به إلى أرض الحرب في إدلب السورية، على أن يسلمه لحكم تعسفي مسيس وجائر ويكيل بمكيالين. وهكذا، تم تدمير العائلة التي تحاول بيع ممتلكاتها ولو بأرخص الأسعار للحاق بابنها الهارب.
في مدينة أوربرو وحدها، ثمة 263 حالة تشبه حالة محمد وربما تزيد، كلهم مطلوبون للاعتقال، بعضهم تم الحكم عليه بسبع سنوات، وبعضهم هارب، وآخرون ينتظرون مصيرهم ليتم اعتقالهم وإصدار الحكم عليه.
تهتف أم أنس مبررةً سلوك ابنها: حتى لو كان حكم استنكار ولدي على حرق القرآن مئة عام من السجن مقابل رميه للحجر، كنت سأحثه على فعل ذلك. فيما يصرخ أبو عصام منتقداً ابنه: ماذا فعلت بنا يا غبي؟! ألا تعلم بأننا مضطهدون مكروهون من قبل هؤلاء؟! ألا يكفينا الترحال والتنقل بين قذائف الموت في سوريا، مروراً بركوب أمواج الموت في البحار والسير مئات الكيلو مترات حتى وصلنا إلى أرض نسكنها؟! لن أقف إلى جانبك ولن أتعرف عليك.. وهكذا، ما بين قصة محمد وقناعة أم أنس وموقف أبو عصام القاسي، أضحى السلم الاجتماعي داخل الأسرة نفسها (فضلاً عن المجتمع الكبير) على كف عفريت وقاب قوسين من انفجار لا يحمد عقباه.
مصطلح حق، أرادت الحكومة به باطل!!
لطالما آمنا بحرية الرأي والتعبير وطالبنا حكوماتنا في بلادنا التي هربنا منها بأن تكون ديمقراطية وترعى حرية الرأي والتعبير، لكننا كنا نعتقد بأن حرية التعبير هي تلك التي تحض على التعايش وقبول المختلف وقول الرأي الذي تؤمن به بحرية وشفافية في حال طلب أحدهم منك رأيك، إن كنت ضد أي شيء، فأرجوك عبر عن رأيك في بيتك، على قناتك اليوتيوبية، بين مناصريك، على صفحات الجرائد والمواقع الإلكترونية، وليس بين المسلمين في ليلة القدر المقدسة!! أحرق المصحف الشريف في بيتك وسجل فيديو لبطولتك وانشره حيث تشاء فلن تجد حتى من يهبط لمستواك ويعاتبك. ثم أن حرية الرأي والتعبير كما نفهمها هي أن يكون لديك منطق فكري يثبت خطأ معتقدي، فتقوله، وأسمعه وربما تقنعني أو أقنعك، فأين الفكر أو حتى وجهة النظر التي قدمها راسموس بحرق القرآن؟! على ماذا نختلف أصلاً وماذا فعلت لك كي تهينني؟ ما الخطأ الذي ارتكبته معك وما هو الحل لخطئي والذي تقدمه لي في رحلة تعبيرك عن رأيك يا سيدي؟! حرية تعبير لشخص وحيد، يسيء ويهين قرابة الملياري شخص في العام، فضلاً عن حوالي 15 بالمئة من شعبك الحاملين لجنسيتك والمقيمين على أرضك يا حكومة السويد العتيدة!! يبدو أن حكومة السويد تعيد تعريف حرية الرأي والتعبير بمزاج ومعان لا يعرفها الأمريكان ولا الفرنسيون ولا البريطانيون أنفسهم والذين صرحت حكوماتهم بأن ما جرى لا علاقة له بحرية الرأي والتعبير إطلاقاً، بل هو موقف سياسي بائس يقوده يمين عنصري استعلائي إقصائي متطرف مشوب بفكر ممسوخ يحض على الكراهية وتفكيك الأسرة وتفتيت المجتمع والظلم، وربما ستدفع هذه الحكومة ثمناً باهظاً في قادم الأيام، فالتطرف لا يحتاج إلا أقل القليل من هذه الأفعال حتى ينمو ويكبر، ثم يحمل السلاح!!
أسأل الحكومة: ماذا لو خرج شخص وأعلن على قناته بأن المحرقة النازية مجرد كذبة مثلاً؟! أو لو قال أحدهم بأنه يحتقر المثلية وسلوكها وقام بإحراق علمها علناً؟ في أية زنزانة ولدى أي قضاء ستتم محاكمة هذا أو ذاك؟! لا شك بأنه سينال حكماً قاسياً جداً، فيما حكومة بكامل قوامها، تدعم وتحكي وتحيط بفرد وحيد، وربما لو لزم الأمر لسيرت فوقه الطائرات وزرعت حوله الدبابات فقط ليقوم بإحراق المصحف، فهو يمارس حقه في حرية الرأي والتعبير!!
هل سمع أحدكم وعبر 1400 عاماً من عمر الإسلام، بأن أحد أنصاره قام بإحراق الإنجيل أو التوراة؟! بالطبع لا، وهذا ما يفسر سبب ثورة هؤلاء الشباب على إحراق القرآن، لأن أمةً ترفض وتغضب لإحراق الإنجيل والتوراة وحتى كتب بوذا وكونفوشيوس، كيف تتصور أنها لن تغضب من إحراق القرآن؟!
من يسيطر على من؟!
هل يسيطر راسموس بالودان على الحكومة السويدية وهو المطرود من بلاده (الدنمارك) التي فشل فيها بالسيطرة حتى على أحمق يشبهه، والمرفوض طلبه الذي قدمه لإحراق المصحف في فرنسا (أم الديمقراطيات الحديثة وحماية حرية الرأي والتعبير)، أم أن بالودان ليس سوى دمية وفزاعة وأداة رخيصة استخدمتها الحكومة ليثير الضجيج الذي يساعدها على طرد وسجن وتخريب حياة المهاجرين؟! الإشارات والمعلومات التي رشحت حتى الآن، ترجح الخيار الثاني، بدليل حمايتهم لبالودان في شارع السفارة التركية لإحراق القرآن على بابها، فهذا كما تقول الحكومة: حرية رأي!!
قمتم بتسييس الفعل، فكيف تجرأتم على تسييس القضاء؟
لا يمكن لعاقل تأييد أي فعل عنف مهما كان وضد من كان، لا بل أكثر من ذلك نحن نطالب الحكومة بمعاقبة الذين رموا أحجار وقاموا بأي مظاهرة شغب ولا نقبل منها أقل من ذلك. لكن وفق القوانين الطبيعية المشابهة لهكذا حالات. في كل دول العالم المتمدن، يحصل مرتكب فعل الشغب ورمي الحجارة سواء ضمن مظاهرة أو أثناء مشاجرة على حكم بالسجن لشهر أو شهرين، فما بال هؤلاء المساكين تحكمون عليهم بالسجن سبع سنوات، سيما وإن علمنا بأن معظم أحكام المجرمين القتلة الذين قتلوا وأجرموا، لا تزيد عن خمس سنوات بالغالب!! لدينا تصور أكيد بأن القضاء أصدر أحكاماً مسيسة تخدم خطط الحكومة، وإن كان لديهم ما يقنعونا به عكس ذلك، فليتفضلوا ويناقشونا، أليس لدينا حقوق بالرأي وحرية التعبير؟!