المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس
الكومبس – مقالات الرأي: منذ صدر الإسلام وحتى يومنا هذا، ظهرت مستجدات اجتماعية وحاجات إنسانية، نتجت عنها تساؤلات عديدة، حول علاقة النص الديني بالواقع الاجتماعي، في ظل ظروف تاريخية تتغير وتتبدل مع متغيرات الواقع ومتطلبات الحياة، الأمر الذي أدى إلى ظهور فرق ومذاهب وشخصيات إسلامية، اجتهدت في تفسير وتأويل النص الديني عبر مراحل تاريخية مختلفة، فمنها من ازدادت غلواً في تفسير النص وعلاقته بإدارة الحكم، فخرجت عن نهج أئمتها وثارت على قادتها وقاتلتهم (فرقة الخوارج)، ومنها من استمرأت التقرب من الحكام، وعززت الاستبداد بفكرة القدر الإلهي، فاستغل حكام الدولة الأمية هذه الفكرة في التمسك بالسلطة، باعتبارهم قدر إلهي على هذه الأمة مثبت في علم الله، وأنهم ينفذون مشيئة الله وإرادته، وذلك لغرض تثبيت دعائم الحكام الأمويين على أساس ديني (المرجئة الأموية)، ومنها من خلقت الإجابة عن التساؤلات الناتجة عن العلاقة بين الخطاب الإلهي وحاجات الإنسان، وهذه الفرقة هي (المعتزلة)، التي تعد من أوائل الفرق التنويرية في الإسلام، والتي ظلت منذ ظهورها عام (81) هجرية مذهباً حيوياً، حتى سقوط بغداد عام (656) هجرية، أي عام (1258) ميلادية.
تميز المعتزلة بتقديم العقل على النقل، وبمبدأ المنزلة بين منزلتين، (الأصل الثالث من مذهب الاعتزال)، الذي يعتبر قاسماً مشتركاً بين جميع فرق المسلمين، على اعتبار أن منظري الحكام الأمويين، يعتبرون مرتكب الكبيرة مؤمن رغم فسقه وفجوره، طالما أن هذا الحاكم نطق الشهادتين، والخوارج تعتبره كافراً فاسقاً يجب الخروج عليه بالسيف، ويوافقهم في ذلك جيل مهم من الصحابة الأوائل على رأسهم الحسن البصري، حيث يعتبرون مرتكب الكبيرة، أي الحاكم الظالم منافق فاسق، وفرقة أخرى تعتبره كافر نعمة فاسق، فهم جميعاً يختلفون في توصيف مرتكب الكبيرة، لكنهم جميعاً يتفقون على فسقه، لذلك قال واصل بن عطاء أنه (فاسق فقط)، لا كافر ولا مؤمن أي (منزلة بين منزلتين)، وقد أوجد المعتزلة العلاقة بين الخطاب القرآني والخطاب الإنساني في ظل ظروف تاريخية دموية، شاعت بها سلطة النص وهيمنته، ففسروا النقل على أساس العقل وأنجزوا بذلك (عقلنة النص)، هذه المهمة التي أنجزها مؤسس المعتزلة (واصل بن عطاء)، كان على أوربا أن تنتظر حتى القرن الثامن عشر لتحقيقها، وهي كانت موضوعة الأمسية، التي أقامها اتحاد الكتاب العراقيين في السويد، واستضاف فيها الباحث (علي حسين سابط)، للحديث عن المعتزلة وأصول الاعتزال.
قدم للأمسية الكاتب فرات المحسن موضحاً، أن في التاريخ الإنساني دائماً ما تظهر أفكار ونظريات وبحوث، تتسم بالاجتهاد أو التأويل، في محاولة لسبر غور العلاقة بين الإنسان والمحيط والطبيعة، أو حتى مع المطلق، ودائماً ما يأتي هذا التأويل للنص، كخروج إلى فضاء إيجابي تنويري، أو محاولة ارتداد وإرتكاس سلبي، ومحاضرة الباحث تتحدد في طبيعة التأويل أو الخروج عن النص الديني، في تقديم العقل على النقل، ونحن نعرف قيمة الإنسان الذي يشتغل بالعقل، وليس ناقلاً للنص ويبقى في حدود فكر النص، وأنا أرى أن الاجتهاد في النص الديني له جذور تاريخية، واعتقد أن أول من خرج باجتهاد على النص، هو الخليفة (عمر بن الخطاب) في حالات: (الطلاق، إقامة الحد على السارق، إسقاط نصيب المؤتلفة قلوبهم، وتحريم زواج المتعة)، هذه كلها نصوص خرج بها الخليفة الثاني وأولها وأجتهد بها، وطرح نفسه كأول مجتهد في النص القرآني والسنة النبوية، ثم نأتي إلى اجتهاد آخر، وهو اجتهاد مكين قام به الخليفة (على بن أبي طالب) كما أورده الأشعري بأن: “لا تحاججهم بالقرآن، لأن القرآن حمال أوجه”، وهذا قمة الاجتهاد في اعتقادي الشخصي، وتوالت الاجتهادات حتى ظهرت المعتزلة في مسجد البصرة، حيث كان (الحسن البصري) يلقي خطبه وأحاديثه في أحدى زواياه، وهو من المجتهدين الإسلاميين، وله منزلة ومكانة كبيرة عند المسلمين، وكان ذكياً جداً بحيث عينه الخليفة (عمر بن عبد العزيز) قاضياً في البصرة، وكان يطلب الاستشارة منه في كثير من الأحيان، وكان (واصل بن العطاء) وهو أحد مريدي الحسن البصري، قد اختلف مع شيخه حول فعل (مرتكب الكبيرة)، وعلى إثرها خرج واصل بن العطاء من مجموعة حسن البصري، وحين ذاك قال الحسن البصري “اعتزلنا واصل”.
الباحث على حسين سابط: مواليد بغداد (1960)، خريج كلية القانون (1984)، عضو نقابة المحامين العراقيين، واتحاد الحقوقيين العراقيين، والهيئة الإدارية لاتحاد الكتاب العراقيين في السويد، له بحوث في الشأن الإسلامي وبالذات التصوف والاعتزال، ولكونه خريج كلية القانون فقد كتب العديد من البحوث بهذا الشأن منها: الثابت في الشريعة الإسلامية (1991) نشر في مجلة آفاق عربية، العقد ومحل الالتزام في القانون المدني / دراسة مقارنة، نشرت في مجلة القضاء العراقي الصادرة عن نقابة المحامين، الفرق بين المفقود والقاصر / دراسة في قانون رعاية القاصرين (1991) نشرت في مجلة القضاء العراقي، عيوب في الدستور العراقي (2011) نشر في موقع صوت الرافدين، حقوق الإنسان في عهد مالك الأشتر (2005)، دوائر محيي الدين بن عربي / تحت الطبع، تصوف (2006)، الخرقة والمرقعة في التصوف (2006) بحث لم ينشر، العبارة والإمارة والإشارة في التصوف / دراسة في أدب المتصوفة (2008)، بحث المكزون السنجاري تصوف تحت الطبع (2008)، المعتزلة وأصول الاعتزال (2012) بحث لم ينشر، رحلة خروف / قصة قصيرة نشرت في جريدة الجمهورية (1986) في بغداد، ورواية الحكومة والجاموس / نشرت فصول منها في مواقع التجمع الفدرالي لإقليم الجنوب.
الباحث علي حسين سابط: لم يبتدع المعتزلة مذهب الاعتزال أو أتوا به من فراغ، فكل فكرة أو نظرية، هي عبارة عن تراكم حضاري وخبرات إنسانية متراكمة، وإن ولادة المعتزلة في العراق غير مستغرب، فعلى أرض العراق نشأت أولى الحضارات في التاريخ، وفي عصر الإسلام ولدت في البصرة، المتصوفة والمعتزلة والأشاعرة وأخوان الصفا، وكل فرق الكلام والمذاهب الإسلامية ومعظم الأفكار الإسلامية الفلسفية ولدت في العراق، وإلا لماذا لم تولد في مكة أو المدينة أو أي بلد إسلامي، ذلك لأن عمق العراق الحضاري وعقلية الإنسان العراقي، تستطيع أن تبدع وأن تخلق أفكاراً ونظريات وعقائد، ويقول ألمعتزلي (ابن أبي الحديد): “وطينة العراق مازالت تنبت أرباب الأهواء وأصحاب النحل العجيبة والمذاهب البديعة، أهل هذا الإقليم أهل بصر وتدقيق ونظر، وبحث عن الآراء والعقائد، وشبه معترضة في المذاهب وقد كان منهم في أيام الأكاسرة مثل: (ماني وديصان ومزدك) وغيرهم”.
فمن معركة الجمل إلى سقوط الدولة الأموية، ولدت فرق وتيارات كثيرة مثل: (المرجئة المؤمنة)، التي تجنبت الصراع بين المسلمين، على أساس أنهم لا يعرفون أين الحق وأين الباطل، وأفضل شيء أن ترجع هذا الصراع إلى الله سبحانه وتعالى وهو الذي يحكم بهم، وأمثال هؤلاء: (عبد الله بن عمر بن الخطاب، سعد بن أبي وقاص، وأبي بكرة)، ويستندون في هذا إلى حديث للرسول (ص): “ستكون من بعدي فتنة، القاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي لها، ومن كان له أرض فليلحق بأرضه”، والتيار الآخر ظهر من معركة صفين، وهم الخوارج بقيادة (عبد الله بن وهب الأزدي)، الذين خرجوا من جيش (الإمام على بن أبي طالب)، رافضين فكرة التحكيم والصلح مع (معاوية بن أبي سفيان)، وهم أصحاب مصطلح (مرتكب الكبيرة)، الفرقة الأخرى هم: المرجئة الأموية أي منظروا الحزب الأموي، الذين يعززون القدر الإلهي، وقد برزت فكرة القدر بصورة جلية في زمن (عبد الملك بن مروان)، واستغلها الأمويون في تعزيز حكمهم، على أنها تنفيذاً لإرادة الله، وأنهم قدر إلهي، وكل من عارض فكرة القدر، كان مصيره التنكيل والقتل والتمثيل أمثال: (الجعد بن درهم، غيلان الدمشقي، الجهم بن صفوان، ومعبد الجهني)، الذين كانوا ينفون القدر ويؤكدون على امتلاك الإنسان اختياره وإرادته.
إن مؤسس مذهب الاعتزال واصل بن عطاء: (أبو حذيفة واصل بن عطاء المخزومي 80 – 131) هجرية، الملقب بالغزال الألثغ، كان يجيد التغلب على هذا العيب المحرج في النطق، فيجانب لفظ الراء إلى سواه من الحروف، ويأتي بمرادفات تخلو من حرف الراء، فيحول مثلاً: (الفراش مضجعاً، الحفر نبشاً، المطر غيثاً، والبر قمحاً)، وقد سجل التاريخ لواصل بن العطاء خطبة كاملة وسط حضور كبير من العلماء، تجنب فيها حرف الراء نهائياَ.
إن واصل بن العطاء، هو من سن أول قانون في الاجتهاد، وهو قانون (الفكر قبل ورود السمع)، والمقصود بالسمع هو النص القرآني أو نص الحديث، وأنشغل بتأسيس أركان مذهب الاعتزال الخمسة وهي: (التوحيد، العدل، المنزلة بين منزلتين، الوعد والوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وكتب أصول المذهب بشكل مرتب ودقيق، وكتب أيضاً المقولات وهي: (نفي القدر، نفي الصفات، خلق القرآن، والعقل)، إن مقولة نفي القدر تعني أن الإنسان مسؤول عن أعماله يوم القيامة أمام الله، وهي طعن في أساس الحكم الأموي، وحتى يتمكن المعتزلة من تأويل النص وتطويعه، قالوا بمقولة خلق القرآن، التي تعني أن القرآن هو مخلوق من مخلوقات الله، ويجوز مناقشة النص القرآني والاجتهاد فيه، ومقولة نفي الصفات تعني نفي التشابه بين الله والبشر، وإنها وصف للإنسان ولا يمكن أن تكون وصفاً للخالق سبحانه وتعالى، وتنزيه الخالق من الصفات والتشبيه، يمثل التوحيد والتجريد للخالق، ومقولة العقل تعني الفكر قبل ورود السمع، كما ثبتها واصل بن عطاء في منهجه، بمعنى تقديم العقل على النص، وهو بالضد من (مدرسة الحديث والنص)، التي ترى أنه من خلال العقل يكتشف الحكم الشرعي في النص، بينما يقول المعتزلة أن العقل هو خالق ومنتج للنص، والعقل هو الوسيط بين الإنسان والسماء.
وقد ركز المعتزلة على مقولة (منزلة بين منزلتين)، التي تتعلق بمرتكب الكبيرة وتخص الحاكم الظالم، وهي داخلة في باب العدل، بمعنى أن مرتكب الكبيرة ليس مؤمناً ولا كافراً وإنما فاسقاً، أي أنه في منزلة بين منزلتين، ومن أبرز شخصيات المعتزلة بعد واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، يأتي إبراهيم النظام، وهو شخصية ذو عقليه جمعت بين الفلسفة والعلم والأدب، ويعتبر فليسوف المعتزلة الأول، ومن ابرز طلابه هو الجاحظ.
إن الجاحظ: (أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب بن فزارة الليثي الكناني البصري 159 – 255) هجرية، هو أديب عربي كان من كبار أئمة الأدب في العصر العباسي، وهو موسوعة شاملة، ولد في البصرة وتوفي فيها، وعندما يذكر واصل بن عطاء يذكر الجاحظ فهما أئمة المعتزلة، وما يطلق اليوم من أفكار لبرالية وعلمانية هي أفكار الجاحظ وكأنه بيننا اليوم، وهو دميم الخلقة واسمر البشرة وعاش (96) عاماً وتوفى وهو أعزب، وألف العديد من المؤلفات أشهرها: (البيان والتبيين، رسائل الجاحظ، البخلاء، والحيوان) وغيرها.
وكمثال لعبقرية الجاحظ، فهو ينصح الكتاب والمؤلفين: “ينبغي لمن يكتب كتاباً ألا يكتبه، إلا على أن الناس كلهم له أعداء، وكلهم عالم بالأمور، وكلهم متفرغ له … فإذا سكنت الطبيعة وهدأت الحركة وتراجعت الأخلاط وعادت النفس وافرة، أعاد النظر فيه”، وأكد على الإلزام بالأمانة العلمية وذكر المصادر بوضوح، ولم يدع ما ليس له دون نسبه لصاحبه، وحفلت مؤلفاته بأسماء الفلاسفة والعلماء منهم: (أرسطو، ديمقريطس، النظام، والأصمعي)، وفي الترجمة يقول الجاحظ: “لا بد للترجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة، في وزن علمه في نفس المعرفة، وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها” وفي الآثار يرى الجاحظ: “لأن من شأن الملوك أن يطمسوا على آثار من قبلهم، وأن يميتوا ذكر أعدائهم، فقد هدموا بذلك السبب أكثر المدن وأكثر الحصون، كذلك كانوا أيام العجم وأيام الجاهلية، وعلى ذلك هم في أيام الإسلام”، وتبنى الجاحظ نهجاً جديداً في التأليف لم يتناوله أحد قبله، وهو الأسلوب النظري الموسوعي، واستخدم مفردات حديثة مثل: (الصناعات، المعاش، الدولة، والاجتماع) وغيرها، وهو أول من دعا إلى سلطتين (دينية واجتماعية)، بعد ما كانت مكرسة بيد الخليفة.
خلص الباحث في حواره مع الحاضرين إلى أن المعتزلة تخلصوا من الألقاب العشائرية والقبلية وحملوا ألقاب المهن التي يزاولونها مثل: (الغزال، الخياط، الخراز، العلاف، والإسكافي)، ورفضوا العمل مع الخلفاء والأمراء، إلا مع من كان معتزلاً مثل: (المأمون، المعتصم، والصاحب بن عباد)، ودعوا إلى حرية الاختيار والتفكير والإرادة.
إن الإنسان في عرف المعتزلة حر التفكير والإرادة، لذلك انشق الكثير من طلابهم ومريديهم على أساتذتهم وشيوخهم، وشكلوا فرقاً ومذاهباً أخرى مثل: (أبو الحسن الأشعري)، الذي انشق عن أستاذه (الجبائي) في مسجد البصرة وأسس (مذهب الأشاعرة)، الذي تنتمي إليه معظم المذاهب الإسلامية اليوم، وأيضاً (ابن الراوندي)، الذي ألف كتاباً أسماه (فضيحة المعتزلة)، بعد أن قضى وقتاً طويلاً معتزلاً، ومنهم (بشار بن برد)، الذي كان صديقاً مقرباً لواصل بن عطاء، وكذلك (أبو نؤاس) الذي ترك (النظام) وغيرهم، وما زال فكر الاعتزال حياً في عقول الكثير من المفكرين والباحثين والكتاب في أيامنا هذه، لما يمتلكه من جرأة وعقلانية في فهم الإيمان بالتقريب بين الدين والدنيا، ودور المجتمع في إدارة البلاد وحكمها، وأن الدين لله ولا يمكن فرضه بالإجبار أو الإكراه.
محمد المنصور