المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس
انتقاء الكلمات والمصطلحات يتم احيانا ليس نتيجة لمعرفة الفرد بعلمية المصطلحات وانما فقط لان الفرد يعرف الكلمة، يطرب لرنينها، ولانها تعني له (وبحق لكن ليس عن علم) اشياء معينة ويرى في تحركات اجتماعية معينة بانها تليق بان تسمى بهذا الاسم او ذاك
بقلم: د. مكرم خوري – مخول
كبقية طلاب المدارس الثانوية كنت قد درست تاريخ اوروبا حيث رسخت في ذهني شخصية العسكري والسياسي الانجليزي اوليفر كرومويل (١٥٩٩-١٦٥٨) على ما اظن نتيجة للاسلوب الذي تم سرد نص مادة التاريخ التي قرأناها عنه باللغة العربية ولما نالت سيرة كرومويل الشخصيه-المهنية عبر هذا النص من نصيب الاثارة وشد هذه الشخصية ومواصفتها للطلاب.
ولد جيلي في مدار النكسة الفلسطينية واحتلال النصف الثاني من فلسطين في ١٩٦٧ حيث امتلأت سنوات جيلنا منذ ذلك المصاب بالمزيد من الصراع حول قضم فلسطين لقمة تلو الاخرى. مع هذا الزاد والساندويش المنتفخ بالعدوان والمقاومة وجدت نفسي في لندن ‘مرابط خيلنا’ وقرنيها الاكاديميين اوكسفورد وكيمبريدج. في تشرين الاول ٢٠٠٣ بدآت بتدريس طلاب في جامعة كيمبريدج وكلياتها المختلفة حيث كانت كلية ‘سيدني ساسكس’ احدى هذه الكليات.
دخولي وخروجي من مبنى الكلية التي تآسست عام ١٥٩٦ والقاء التحية الباطنية الى لوحة حفر عليها وجه اوليفر كرومويل اعارني دوما اهتماما مضمرا وباستمرار.
لكني، ورغم ‘اللقاءات’ المتكررة معه، لم اتوقف عنده لاتمعن ملياً الا بعد ان قام من قام بالتمثيل في جسد، جثة العقيد الليبي معمر القذافي في الربع الاخير من العام ٢٠١١.
فما العلاقة اذن لهذه المقارنة التاريخية؟
بعد مشاركته في الحرب الاهلية الانجليزية والتي استمرت زهاء عقد من الزمن (١٩٤٢-١٩٥١) ضد الملكية ( الملك تشارلز الاول) واستلام اوليفر كرومويل مقاليد الحكم في انجلترا مع حركة ‘البرلمانيين’، تغيرت موازين القوى السياسية والعسكرية في انجلترا وعادت الملكية وانتزعت زمام الحكم بعد موت اوليفر كرومويل قرب البرلمان في لندن عام ١٩٥٨ وتم دفنه في كنيسة ‘ويستمينستر ابي’ قرب البرلمان والقصور. (ذات المكان الذي اقيمت فيه جنازة الاميرة ديانا وقداس زواج ابنها ويليام من الشابة كيت ميدلتون). الا ان القصة لم تنته هنا… فبعد عودة الملكية في انجلترا عام ١٦٦٠ بعام واحد، وبالتحديد في ٣٠ يناير ١٦٦١ قام موالون للملكية باستخراج جثة اوليفر كرومويل من قبره في ‘ويستمينستر ابي’ حيث قرروا انه وبالرغم من انه جثة مدفونة، قاموا بشنق جثة هذا العسكري السياسي الذي حكم انجلترا.
فلكل مجتمع تجربته وخصوصيته ولمن يكتب النص التاريخي مجال لبسط نفوذه الفكري على النص عبر الاجيال. فقيادة كرومويل المعارك ضد الكاثوليكيين في اسكتلندا دفعت بعض المؤرخين الى تشبيه حملاته العسكرية بـ"الابادة الجماعية" بينما قام المجتمع البريطاني (عبر استطلاع اجرته ال بي بي سي) عام ٢٠٠٢ باختيار اوليفر كرومويل كاحد اهم عشر شخصيات انجليزية عبر العصور. ففي كل بقاع المعمورة، كما يبدو، بالامكان ان يعتبر الشخص ذاته بطلا بين مؤيديه وقاتلا في اوساط معارضيه. فللمسميات معان وعادة ما تكون للمعاني دوافع نفسية او ايديولوجية او مادية واخرى تستند على تحليل علمي ومنهجية اكاديمية.
فرغم العلاقة ما بين اللغة والايديولوجيا وما بين الايديولوجيا وعلم الاجتماع السياسي فعندما كتبت في الصحافة في العام الماضي كنت قد امتنعت شخصيا، حتى ولو مجازا، من الصاق اية تسمية، نسبة الى اية فصل من فصول السنة، على الاضطرابات ولربما التحولات التي تجري في العالم العربي منذ مطلع ٢٠١١. وعندما حاضرت عن الاعلام والسياسة كنت قد اثبت انه ورغم دور وسائل الاعلام ومنها بشكل خاص وسائل التواصل الاجتماعي (الاعلام المجتمعي الجديد) فليس هناك علاقة سببية ما بين موجة الاحتجاجات التي يمر بها العالم العربي وبين تكنولوجيا الاعلام الجديد، وان كل ما نشر عن هذا الموضوع في الصحافة استند الى عوامل عاطفية وامال واحلام شخصية وليس الى اية اسس علمية.
انتقاء الكلمات والمصطلحات يتم احيانا ليس نتيجة لمعرفة الفرد بعلمية المصطلحات وانما فقط لان الفرد يعرف الكلمة، يطرب لرنينها، ولانها تعني له (وبحق لكن ليس عن علم) اشياء معينة ويرى في تحركات اجتماعية معينة بانها تليق بان تسمى بهذا الاسم او ذاك. البعض، وذلك استاندا الى رغبات ذاتية نابعة عن احتياجات نفسية وفي اطار ‘الطرب السياسي’ يطلق العنان للغته واوصافه مستندا الى اسلوب التمني حيث يختار استعمال كلمات مجازية دون علاقة ما بين الكلمات والموضوع المدروس وما يجري على ارض الواقع. اخرون يكونون على علم (ولو بشكل محدود) بما يجري ولكنهم يريدون تصوير الواقع بالشكل الذين يريدونه (بروباغندا) واضفاء صبغة معينة عليه وذلك للترويج لخط سياسي معين او ايديولوجية مختارة حتى لو لم ترتبط بالواقع، وذلك لجسر الهوة ما بين الواقع وتمنيات اجندتهم. اولائك يقومون بمحاولة لجر المجتمع نحو تمنياتهم املين ان توءثر الكلمات على السلوك الاجتماعي والمشاركه السياسية للمجتمع. هنا توءخذ بالحسبان احيانا رغبة البعض في المحافظة على قسم من الرآي العام عبر اشباع جزء من الحاجات النفسية الموءقتة للمجتمع واعطائه مما يستحليه وبذلك يكونون قد كسبوا رضاءه ولو لفترة وجيزة.
هنا تتشابك وتتقاطع مصالح مجموعات مختلفة. فبينما نجد مجموعات ايديولوجية او قطاعات غير مؤدلجة، متفقة، قانونيا او عبر الفضاء المجتمعي-العمومي على الخطاب الاعلامي السياسي العام، على مجموعة من الاهداف الاولية المحصورة، فهذا لا يقول انها متفقة على اهداف المراحل التالية. فبينما وجدنا في بعض ميادين المدن العربية العديد ممن يعارض طريقة حكم معينة في هذه الدولة او تلك، فقد وجدناهم قادمين من مشارب سياسية مختلفة واحيانا متناقضة – رغم التقائهم سوية في الميدان، ولكن مؤقتا.
فمن الواضح ان لكل مجموعة خلفية ايديولوجية معينة او اجندة سياسية مختلفة او اولويات اجتماعية-اقتصادية غير متجانسة. كما انه ولكل مجموعة تصور وتخيل مغاير لما يراد به ان يكون في النهاية ‘ثورة’. ولربما كانت رسالة فريديريك انجلز (رفيق كارل ماركس) الى رفيقتهم فيرا زاسوليتش والتي ارسلها من لندن يوم ٢٣ نيسان ١٨٨٥ قد احتوت على اكثر التفسيرات الواقعية بما يتعلق بالاحتجاجات والثورات، حيث كتب: " الذين يتباهون بأنهم صنعوا ثورة سرعان ما لاحظوا (دائما) في اليوم التالي أن ليس لديهم أية فكرة عما كانوا يفعلونه، وأن الثورة التي صنعوها لم تكن تشابه الثورة التى ارادوا صنعها. وهذا هو ما اسماه (الفيلسوف) هيغل بـ- ‘المفارقة التاريخية’، مفارقة استطاعت فقط شخصيات تاريخية قليلة الفرار منها."
الحديث هنا ليس فقط عن اوليفر كرومويل الانجليزي وانما ايضا عن القادة العرب الذين لم يبقوا (شخصيا) في دفة الحكم حيث ستحاول الابحاث الاكاديمية تقييم كل من نجا منهم من هذه المفارقة.
فقد مر عام ونصف تقريبا على بداية الاحتجاجات المتفرقة منها والمركزة منها في دول اخرى من العالم العربي وما زالت عملية التحول السياسي في مطلعها وهذا ليس غريبا ولا يجب (مع انه من حق الجميع عمل ما يريد) زرع الاوهام في صفوف المجتمع على ان ما يجري في العالم العربي هو ثورة كاملة متكاملة لان في ذلك مغالطة تاريخية ومحاولة لا تستند على اية دراسة علمية.
فرغم ان الثورة الفرنسية انطلقت في ١٧٨٩ الا ان بدايتها استمرت عقد من الزمان. ورغم الاطاحة بالملكية التى كانت قد ادارت الحياة ونظمتها في فرنسا لعدة قرون سبقت، ورغم اعدام الملك لويس السادس عشر عام ١٧٩٣ اي بعد عام من الاطاحة به الا ان نابليون الاول اعاد النظام الملكي عام ١٧٩٩ حيث قامت الجمهورية الثانية فقط بعد نصف قرن منذ هذا التاريخ.
فالعمليات العسكرية او الاقتصادية لا تسير بشكل متواز مع عملية التغيير في الجهاز السياسي (والقضائي) او في المفاهيم السياسية بما فيها المشاركة في العملية السياسية بشكل متساو ووفقا للقانون والنظم القيمية التي ترسي العدالة الاجتماعية. فحتى لو تغيرت وجوه من يدير البلاد عسكريا او سياسيا نتيجة للاحتجاجات في المرحلة الاولى الا ان هذا لا يعني بالضرورة ان انماط التصرف الحكومي او الجماهيري تغيرت او انها متوجهة نحو التغير بلمح البصر.
فهذه عملية ليست بقصيرة وجزء من مسيرة لانها (اذا تمت) فانها تتضمن بداية التحرر من تنشئة سياسية اجتماعية سادت في الماضي ولمدة طويلة تليها عملية اعادة لتنشئة جديدة وفقا لنظم قيمية مغايرة لتلك التي سادت. هذه عمليات سوسيو-سيكولوجية مركبة ومتداخلة تجري عادة من ‘الاعلى’ وعبر جهازي التعليم والاعلام بالتحديد، ولكن ايضا بحاجة الى مشاركة ‘الاسفل’ او اوساط القاعدة الشعبية (تلك المستقبلة للقيم الجديدة)، هذا في حالة توفر الوعي والممارسة المهنية والرؤية العلمية والاخلاقية للقيادة لكي توفر الارضية المناسبة والمناخ المجتمعي-النفسي لايجاد قابلية لعملية كهذه.
فمن شآن المتحكم بوسائل الاعلام وجهاز التعليم ان يقرر مكونات وفحوى ومحتويات هذه الاجهزة التي تقررها مؤسسات سياسية – امنية – اقتصادية تبلور وتصادق على استراتيجية اي بلد او مجتمع. وبالتالي فجهاز التعليم سيستطيع ابقاء المنهج على حاله او تغييره بشيء جديد وفقا لسياسته. فكون جهاز التعليم وكالة اجتماعية، يمكن لجهاز التعليم ان يبقي النظم القيمية كما هي او ان يجددها. التجديد ليس بالضرورة تغير الشيء بالكامل. فيمكن ان يتمحور التغيير في البناء على النظم القيمية الدينية (على سبيل المثال) والتي ستوءدي الى ترسيخ المبادىء التي تنص عليها النصوص الدينية او تفسيرات من يسيطر على المنهاج. وبالتالي، فان النظم القيمية لهذه ‘الثورة’ او تلك سوف لا تعتبر (وقد يدعي البعض انه ليس بالضرورة ان تكون تغييرا) انسلاخا عن قيم المجتمع بشكل تام او تجديدا لتبني مبادىء علمانية-ديمقراطية تستند على المساواة والحرية الشخصية والتساوي في الفرص والخ ، او صراع طبقي يوءدي الى تحول سياسي كبير (وفقا للفلسفة للماركسية) وانما تطبيقا لاصل معنى كلمة ‘ثورة’ - revolvere,في اللاتينية اي عوده الى الخلف او السلف او الوراء.
فهناك من لا يريد تطوير الجهاز السياسي-الاداري وانما فقط تغيير الوجوه لكي يتسنى له تغير الفحوى التي سادت في الماضي، بفحوى مختلفة يفرضها هو ليهيمن على موارد البلاد ويهندس نفوس الناس ويدير عقولها وذلك بدون تطوير وعصرنة للجهاز لكي يتماشي مع متطلبات العصر والريادة العالمية للمجتمعات والحكومات المتطورة. هذه النظريات لا تعني على الاطلاق ان على العالم العربي المرور الاجباري في مرحلة تسود بها الحكومات التي تستند الى مرجعية دينيه اسلامية. من جهة اخرى ما ورد اعلاه لا يجزم ان هذا ما سوف لا يحصل.
لكن ان حصل ذلك فسيكون نتيجة صراع بين القوى المختلفة ومجموعات الضغط واستنادا الى رعاية عالمية توفر الغطاء السياسي واخرى اقليمية توفر الدعم الاقتصادي والدعم على الارض محليا. بدوره، الدعم الاقتصادي سيحرك الاعلام وقد يحشد الجماهير (ولكن ليس بالضرورة) وسيعبىء جهاز التعليم وسيحرك وينهض بالموءسسات الدينية (او عكس ذلك) الى ان تآتي اجندات مختلفة، مدعومة هى ايضا، تصارع الحركات الاجتماعية الاخرى المدعومة وتقنع الجمهور بالبديل وبضرورة تبني اجندة مختلفة يسير عليها. في صلب كل هذه التحركات السياسية-الاجتماعية تقف قيمة مهمة جدا في المجتمعات المتقدمة (هذا اذا ما افترضنا ان احدى قيم الاحتجاجات التي تجري في العالم العربي تشمل هذه القيمة) الا وهي ‘حق الاخر’ في الوجود الجسدي والتواجدالسياسي والمشاركة والتساوي (ورغم عزله واضعافه كما حصل لحزب البعث العراقي) يجب عدم الغائه او اقصائه (على رغم من يرى بضرورة محاربة فكره ونهجة، لكن سلميا). فلا يمكن المطالبة بجعل مبادىء الحرية والديمقراطية والمساواة قيما عليا دون تطبيقها على الجميع ولصالح الجميع، وجعل الجميع يقبل بالكل وعدم الغاء الغالبية للاقلية وحقوقها. في الدول المتطورة يسهر المستشارون (وغالبيتهم من الاكاديميين) على بلورة روءى متقدمة للحاكم او الحكومة او الحزب او الائتلاف. واعطي هنا على سبيل المثال لا الحصر دور البروفيسور انطوني غيدنز الذي شغل لفترة منصب مدير كلية ال اس اي (جامعة لندن) في بلورة فلسفة رئيس الحكومة البريطاني السابق طوني بلير والتي لاقت نجاحا محليا كبيرا في بريطانيا وذلك قبل ان تنهار شعبيته اثر احتلال العراق وتدميره. فالساسة بحاجة الى رؤى تستند على البحث العملي، تضع الاهداف المدروسة والاستراتيجية التي يتبعها التكتيك والميزانية وكل ذلك يمكن ان يكون مبلورا بالمشاركة مع "الفيلسوف"الاكاديمي رغم ان الفلاسفة (اذا لم يحكموا وفقا للطريقة الافلاطونية التى شرعنت حكم الفلاسفة) ايضا بحاجة الى تجربة الساسة لكي يتم التوازي ما بين النظري والتطبيقي ولكي تصبح العملية متكاملة.
فالى ان تتوسع رقعة وعدد افراد الشريحة العربية المجتمعية التي هي على استعداد فكري للمراجعة وبترو، والتآمل بحذر وتناقش فيما تناقشه نقدا، تجارب مجتمعات مختلفة والدراسات المقارنه، سوف لا تكون العملية الفكرية متكاملة. فاحدى المواضيع المهمة في هذا المضمار هو ما كتبه الفلاسفة والعلماء عن الثورة (في بقاع الارض) و’مهنة الحكم’ وعلى سبيل المثال لا الحصر كتابات الفيلسوف وعالم الاجتماع والمؤرخ كارل ماركس في عام ١٨٥٢ عن انقلاب نابليون الثالت في فرنسا عام ١٨٥١ ، على انه صحيح ان ‘الشعوب تصنع تاريخها، ولكنها لا تصنعه كيفما تشاء، وهي لا تصنعه تحت ظروف ذاتية (وحرة) الاختيار، ولكن في ظل الظروف القائمة بالفعل، والتي تنتقل من الماضي’. كل هذا من المفترض ان يقودنا الى نهج مهني عقلاني يجعل من يستطيع (وعلى استعداد) منا التخطيط بمهنية والقيادة بعقلانية والتطبيق بحساسية ومراعاة للجميع، لان ذلك سيساهم بالعمليات التي شرعت تحصل في العالم العربي منذ يناير ٢٠١١ وسيقرر هل سيتم في المستقبل تعريف هذه العملية مجازا كـ"ربيع عربي" (ورغم حسن نيات الكثيرين) او كـ"هزيع" (حماقة) عربي تمحور في هدر الدماء والطاقة والموارد والوقت ليوصف بهزيع الليل الطويل على امتداد كل الفصول والسنين.