المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس
الكومبس – رأي: العار شعور عميق ينبع من وجود فجوة بين ما يدعيه الإنسان وما يقدر على تحقيقه بالفعل. كلما كبرت هذه المسافة، زادت احتمالية تعرض الفرد للعار والخزي. هذا الشعور الإنساني له جذوره في النفس البشرية ويتجلى في صور مختلفة باختلاف السياقات الثقافية والاجتماعية. ففي السويد، نجد أن ثقافة “jantelagen” (قانون جانتي) تكرس قيم التواضع، التي باتت سلوكاً عامّاً مع بعض الاستثناءات، بينما نجد على منصات التواصل الاجتماعي ظاهرة التفاخر المبالغ فيه، من قبلنا نحن الشرقيين، إضافة إلى الادعاءات التي تبتعد عن الواقع، مما يخلق واقعاً مختلفاً تماماً.
ثقافة “jantelagen” في السويد: دعوة للتواضع
في المجتمع السويدي، تعد “jantelagen” جزءاً من المنظومة الثقافية التي يتم غرسها في الأفراد منذ الصغر، سواء في الأسرة أو المدرسة. هذه الثقافة تقوم على مبدأ بسيط: لا تفتخر بما أنت مبدع فيه لأن هناك دائماً من هو أفضل منك. فبدلاً من أن يقول الشخص “أنا الأفضل في هذا المجال”، يُشجع على القول “أنا أحاول أن أكون جيداً فيه”.
هذا النهج يُراد به تعزيز التواضع وتقليل التفاوت بين الأفراد، ما يساعد على بناء مجتمع متوازن يبتعد عن الغرور والتفاخر. وكما قال أبو العلاء المعري:
“وإذا افتخرتَ بآباءٍ لهم شرفٌ
قلنا: صدقتَ، ولكن بئسَ ما ولدوا”
(المصدر: ديوان المعري).
بهذا، يتمحور التركيز في السويد حول الجهد والسعي للتطور بدلًا من التباهي بالإنجازات.
التفاخر الزائف على منصات التواصل الاجتماعي
على النقيض، نجد أن منصات التواصل الاجتماعي في العالم العربي تحولت إلى ساحة للتفاخر المبالغ فيه. كثيرون يدعون امتلاك خبرات ومهارات أو يظهرون حياة مثالية قد تكون بعيدة تماماً عن الواقع. هذه الظاهرة لا تؤثر فقط على مصداقية الأفراد، بل تخلق أيضاً ضغوطاً اجتماعية ونفسية على الآخرين الذين قد يشعرون بالنقص أو الفشل عند مقارنة حياتهم الواقعية بالمظاهر الزائفة التي يشاهدونها.
وهنا تأتي الآية الكريمة التي تدعو إلى التواضع ونبذ الغرور: “وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا” (الإسراء: 37).
التفاخر الذي نراه اليوم يعكس ابتعاداً عن هذه القيم القرآنية، ما يؤدي إلى نشر الوهم والخداع بين الناس.
تاريخياً، نجد قصة الشاعر المتنبي مثالاً حياً على خطر الادعاء. المتنبي، الذي اشتهر بتفاخره بنفسه وبشجاعته، قال في أحد أبياته الشهيرة:
“الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفُني
والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ والقلمُ”
(المصدر: ديوان المتنبي).
لكن هذا التفاخر كان أحد أسباب مقتله. عندما تعرض للهجوم من أعدائه، حاول أحدهم السخرية من ادعائه قائلاً: “أين شجاعتك التي تزعمها؟” فشعر المتنبي بالعار من الفرار وقرر المواجهة رغم أنه لم يكن قادراً على الدفاع عن نفسه، فقُتل. هذه الحادثة توضح أن الادعاء بلا أساس قد يقود الإنسان إلى الهلاك.
بينما نجد أن “jantelagen” في السويد تعزز التواضع كقيمة مجتمعية، نجد أن التفاخر على منصات التواصل الاجتماعي العربية يعكس ثقافة تسعى للفت الانتباه بأي ثمن، حتى لو كان ذلك بالكذب أو التضليل. الفرق بين الثقافتين يكمن في إدراك قيمة التواضع كوسيلة لتحقيق التوازن النفسي والاجتماعي.
يقول الإمام علي بن أبي طالب:
“قيمةُ كلِّ امرئٍ ما يُحسنُهُ”
(المصدر: نهج البلاغة).
فالإنسان الحقيقي هو من يُقيَّم بناءً على ما يتقنه وما يقدمه للآخرين، لا على ما يدعيه.
الادعاء الفارغ هو بوابة للعار، سواء كان ذلك في الحياة الواقعية أو على منصات التواصل الاجتماعي. الحل يكمن في أن نتبنى ثقافة التواضع والعمل الجاد كما في السويد، مع الابتعاد عن المظاهر الزائفة التي تخلق أزمات نفسية واجتماعية. ففي نهاية المطاف، العبرة ليست في ما نقوله عن أنفسنا، بل في ما نستطيع تحقيقه فعلياً.
فاروق الدباغ