المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس
الكومبس – مقالات الرأي: لم يقض “احمد لوباني” كما قضى احد ابطال رواية “الشهيد غسان كنفاني”، رجال في الشمس ، في صهريج التهريب اختناقا من شدة الحرارة و نقص في الاكسجين و ما من احد سمعه و هو يطرق بيد منهكة الجدران الداخلية للصهريج و هو يحاول التسلل خلسة الى احدى دول الطفرة النفطية في الخليج العربي في سبيل ان يخفف عن اهله عناء النكبة ويعينهم على ما حل بهم من عوز في مخيمات اللجوء بعد اقتلاعهم من وطنهم التاريخي… و انما استطاع احمد بعد لأي، و بعد ان استهلك كافة الامكانيات من الحصول غلى دعوات و تدخل المعارف بالوساطات و تقديم الضمانات – ملعونة لقمة عيش مغمسة بالذل و التعالي…- فان كل تلك الاكداس من المحاولات بلا كلل… مكنته اخيرا ان يعبر اجراءات المطار، ليطرح جهده بعد ذلك كسلعة رخيصة لاول مشتري حتى و لوكان الثمن بخسا، لان حالته لا تحتمل ان ينتظر بلا عمل حتى لايام معدودات في سوق العمالة الخليجية. فاحمد لم يحط رحاله في الخليج خالي الوفاض و انما جاءهم مسلحا بشهادة مهندس لتكون له عونا في جريه وراء وظيفة مجدية تعينه على النهوض بعبئ والديه و اسرته و هو المدلل لوالدته كونه بكرها و لوالده الذي انتظر مجيئه بفارغ الصبرعشر سنوات او يزيد !!!
والد احمد، فؤاد لوباني، الذي استكمل سنوات طفولته الاولى لاجئا في مخيم النيرب ” المضافة الاولى ” في حلب، العابه الشتوية مع زملائه كانت في اغلبها التزلج حفاة على الطين خشية ان تهترئ جزماتهم المطاطية من شدة احتكاكها بالارض او خشية اصابتها بشظية زجاجية ملقاة جزافا على الارض و قد غمرتها التربة – و منطق فقر الاطفال حينها يقول: ” برجلي… و لا بالجزمة ” – و لان جزمته اذا ما الم بها مصاب على عجل فلا يجدون بديلا غيرها. او اللعب بكرة الشرائط القماشية المصنعة من بقايا اسمال بالية لم تعد صالحة للاستخدام بعد ان استنفذت كافة امكانيات الترقيع اليدوي. اما في الصيف فكانت لعبتهم المفضلة الحرب بسيوفهم و بنادقهم الخشبية او منجنيقاتهم المتوفرة من قضبان الملوخية بعد تعريتها من اوراقها على يد حلقات من النسوة يقتعدون كراسيهم في زواريب المخيم و يتعاونوا على تامين مأونة الشتاء باقل الاسعار. و كان الاطفال بعد شوط من اللعب يتقاطرون الى مطعم الاعاشة ” التابع لوكالة غوث اللاجئين ” فيجدون العم ابو النعم ببسمته و وداعته و ابو محمد الدباغ بجديته التي فاقت الحد المعهود و ام سعيد الرمضاني التي ما كانت الابتسامة لتفارق ثغرها و هي تحنو على زوار المطعم من الاطفال، تجلسهم متجاورين على المقاعد الخشبية الطويلة بلا مساند ظهرية، خلف مناضد مرصعة بصحون و كاسات بلاستيكية متشاكية الالوان – هذا و قد نشا بين الارملة ام سعيد و ابو محمد تناغم و تلاطف و اعجاب ادى بهما الى زواج محسود في تلك السن المتقدمة من العمر – و الثلاثة كانوا يقفون بمراييلهم الموحدة الزرقاء و جزماتهم المطاطية الطويلة حتى الركبة في انتظارهم ليقدمون لهم ما تيسر من الطعام و شوربة الخضار.وفؤاد هذا كان من الذين نجوا هو و اترابه لانهم قد راكموا مناعة و تعودا على بيئة المخيم المفتوح للهواء من اركانه الاربعة و غدوا شهودا على موت اعداد وفيرة من الولادات الجديدة و من العجائز و الكهول الذين اخطاتهم ادوات قتل العصابات الصهيونية التي لم تصبهم في مقتل لحق بالعديد من الفلسطينيين في خضم المجازر التي ارتكبت، ليدب الذعر في نفوس الناس و اجبارهم على ترك بيوتهم و املاكهم لينجوا بحياة عيالهم، و لكن ها هو الموت يعاجلهم على يد صقيع لم تصمد امامه اجسادهم المنهكة وما شفع لهم لهاثهم بالدعاء ليل نهار بان لا ياتيهم الموت قبل ان يكحلوا عيونهم بمراى الوطن مرة اخرى !! .
شتاء 1952
و من لم يتوقف قلبه منهم عن النبض من برد جمد اطرافه، مات اختناقا من دخان خلفه خشب الزيتون الذي قطع لتوه بعد ان فقد يناعته و اخضراره و خر صريع برد لم يجد في نفسه طاقة على احتماله فغدا مشاعا لكل من اراد ان يحطب. وقع كل ذلك الهول من الاحداث في ذلك الشتاء لعام 1952 حيث لا زالت مهاجع المخيم حينها تضم بين جدران كل منها ستة عشر عائلة، لا يفصل بين العائلة و الاخرى سوى بطانيات مشدودة على امتداد عرضها، بحيث لا يتمكن الواقف من معتدلي القامة ان يرى جيرانه . سماؤهم كانت الواحا من الصفيح، تقطر ماء من الثقوب كلما هطل المطر فيتصدى لها سكانها بكل ما لديهم من صحون و طناجر ليضعوها تحت مواقع التنقيط، فتزيد سيمفونية نقر المطر على الواح ” الزينكو ” ايقاعا اضافيا، و تقوم تلك الاواني بحماية الفراش و اللحف من البلل فهي، اي المهاجع، لم تحظ بالصيانة منذ رحلت الجيوش الفرنسية عن سوريا!!! و رغم ذلك فقد وهبت اطراف الواح القصدير الاطفال سيوفا من الشمعدانات الجليدية و كانها نوازل مغارة جعيتا او قاديشا، حيث كانوا يتسلقون اكتاف بعضهم البعض ليتمكنوا من اقتطافها و المبارزة بها الى حد الذي تطيقه اياديهم الناعمة و تتحمله رؤوسهم الحليقة ” على الصفر ” لا اتباعا للموضة بل خشية ادارة المدرسة من انتشار القمل، فكان الحلاق يقف الى جانب المعلم المناوب في الطابور الصباحي و بعد ان يؤدي التلاميذ نشيد ” موطني … موطني ” فمن طال شعره منهم يعمل الحلاق على فتح شارع في راسه بماكينته، ليضطر اهله على اصطحابه الى الحلاق لاستكمال حلاقته – و كان العديد من التلاميذ يحتفظون بتلك الشوارع على رؤوسهم لان اهلهم لا يملكون حينها اجرة الحلاقة، و يتابع المناوب التفتيش على الاظافر، نظافتها و طولها قبل ان يجري تعفير راس الجميع ببودرة ” د. د. ت ” ثم يعطى كل تلميذ حبة زيت سمك و التاكد من ازدراها ثم يجري ملء كوب من الحليب الدافئ و المحلى المذوب من حليب بودرة تؤمنه وكالة الغوث لتضمن حد ادنى من غذاء الاطفال.
جرائم العصابات الصهيونية
فؤاد الذي كان ابنا للعجوزين ابو و ام قاسم اللذين بنيا لنفسيهما كوخا و دكانا صغيرا في حارة آل حنينو التي تقع غربي المخيم على تخوم مزارع الخضار العائدة لاهل قرية النيرب المجاورة – أل حنينو المتجاورين هم من تبقى من تلك العائلة على اثر مجزرة ارتكبتها طائرات العصابات الصهيونية ضد ابناء بلدة ترشيحا الذين كان يحتمي العشرات منهم في احد اقبية دار حنينو حيث لم ينج منهم الا نفر قليل و من بينهم تلك السيدة الجميلة ” فاطمة الهواري ” التي عاشت ردحا من الزمان حتى وقت قريب على كرسيها المتحرك كشاهدة و راوية صدق عن جرائم العصابات الصهيونية، لكن ابو قاسم الذي كان قصير القامة، نشيط الحركة، دائبها كنحلة عاملة، تتحرك عيناه اينما رآه المرء كمغزل عجوز متمرسة، وكان يعتمر على الدوام طاقية بيضاء نسجتها له ام قاسم، التي كانت تتقن العمل اليدوي ككل بنات الفلاحين اللات كن يستمتعن بتلك الاعمال في ليالي الشتاء، حيث يقل النشاط الريفي و يتجمع افراد العائلة حول الموقد يستمعون لحكايات الجدات او الاجداد الشيقة المتوارثة عن السلف، بينما تنشغل الصبايا بعمل الصنارة او التطريز الفلاحي على قطع قماشية يجري الاحتفاظ بها لتصطحبها معها الى بيتها عندما تتزوج ، و لكن الخالة ام قاسم كانت اثقل همة منه و اقل قدرة على سماع محدثها حتى درجة الطرافة، كما تميزت تلك العجوز بطيبة لا توصف فكانت ذات قلب يتسع لحب كل مجايلي ابنها، فتاخذهم باللين و الكلام العذب. و لكنه، اي ابو قاسم المتيقظ على الدوام لم يكن معروفا بابي قاسم لوباني بين ابناء المخيم – فاي طفل يعرف جميع سكانه لانهم قد غدوا وكانما هم اسرة واحدة في السراء و في الضراء – لانه ليس من بلدة لوبية المجاورة لقرية البروة – مسقط راس قيثارة فلسطين و شاعر زمانه محمود درويش – و لطبريا و حطين – تلك القرية التي حول صلاح الدين الايوبي اراضيها الى ميدان نصر على جيوش الصليبيين الذين عادوا مع ملوكهم مدحورين الى بلدانهم الاوربية – كما توحي كنيته، بل كان يدعى ابو قاسم الداموني نسبة الى بلدته الدامون التي لا تبعد كثيرا الى الشرق من مدينة عكا تلك المدينة التي كانت عصية على الغزاة و التي لا يزال سورها شامخا عزيزا قاهرا للغزاة و صفحة مياه بحرها لا تزال تروي هزيمة نابليون بونابرت بعد ان اعجزه طول حصارها فالقم اليم قبعته و قفل راجعا الى فرنسا – فان تلك القرية التي لم تبارح خيال ابو قاسم منذ احتلها لواء شيفع “السابع” الصهيوني في تموز من عام النكبة و طرد سكانها، فكيف لا يتذكر كل تفاصيل الحياة فيها و هو الذي كان في عمر سمح له ان يتلذذ باعمال الفلاحةعلى اختلافها، من حراثة و حصاد و جني لثمار الزيتون و صناعة الحصر و السلال ” القفف ” التي اشتهرت بها بلدتهم، حيث كانوا يقطعون نبات الخوص و الحلفاء التي كانت تتكاثر على ضفاف نهر النعامين المجاور لاراضي البلدة و كما كان يقضي الليالي الصيفية المقمرة ساهرا لحراسة “مآثي البطيخ و الشمام ” من على” العرزانة ” المحمولة على جذوع شجر و المغلفة باغصان ” الغاوردا ” لتحمي فراشه من بلل الندى و لتفوح رائحتها الزكية مع كل نسمة تخشخش اوراقها و لا زالت حلاوة بطيخ و شمام البلدة تحت اضراس العم ابو قاسم. الذي يزفر حسرة كلما راى اكوام البطيخ و الشمام على البسطات في المخيم.و لا يتردد ابو قاسم كلما ضاق صدره ان يقف فاتحا كفيه و رافعا راسه الى السماء مستغيثا بقوله: ” يا عبد المغيث اغثنا ” و عبد المغيث هذا كان اسم المزار الذي كان يقدسه اهل الدامون و القرى المجاورة لها و مزار عبد المغيث هو الاسم المحلي لمزار ” ذي الكفل “
العلم امضى وابقى سلاح
ترعرع احمد و اخوه محمد و اخواتهما الاربعة في ظل اجواء حاول فيها والدهما ان يعوضهم عما تعرض له من فاقة و حرمان في طفولته الشقية القاسية و ما تعرض له و اهله و سكان مخيمات اللاجئين من شظف في العيش لا يمكن وصفه باقل من فقر اسود مزدوج ، حيث حرمتهم الحياة من ابسط الحقوق التي يتمتع بها معظم اطفال العالم بسبب ما جرته عليهم هجرة الوطن القسرية، فكان فؤاد لوباني يبثهما حنانا دافئا و الى جانب الدلال الذي بذل فيه اقصى الجهد و الاستطاعة، كان قد استعار من والده الصرامة في مجال متابعتهم التعليم لانه قد بات مقتنعا بان العلم هو امضى و ابقى سلاحا بيد الغرباء عن اوطانهم حتى و لو كان اللجوء في بلدان اخوان لهم في العروبة، و لم يخذل احمد حلم امه و ابيه فيه، فتابع دراسته من نجاح الى نجاح لا يثنيه عن ذلك الهدف النبيل اي شئ، بل كان يحول المصاعب التي كانت تعترض طريقه فيه الى عزيمة تشد من ازره و تزيده اصرارا على مواصلة دربه الصاعدة الى الامام و كانه في سباق حامي الوطيس مع الزمن، و هذا ما اهله ان يحتل مقعدا مريحا في كلية الهندسة في جامعة حلب، حيث لم يهمل الى جانب اجتهاده العلمي دوره في الاتحاد العام لطلبة فلسطين و واجبه الوطني الذي رضعه منذ يناعة اظفاره من بيئته التي نشا فيها و في خضم كل ذلك لم ينس تغذية روحه بعشق يعينه على تهذيب النفس و شق طريقه في حياة طافحة بالاحلام الجميلة، فغردت طيور الحب في سماء عواطفه الجياشة، تزف و تبارك خيارهما هو و زميلته، تلك الشابة الحلبية مرام التي بادلته الحب بحب و اضفت على احلامه مسحة من الواقعية كما اشتهاها – فقد ولى لديه زمان التدخل الصارم و الحازم من الاهل في شؤون ابنائهم الشخصية، حيث كانوا يضعون عثرات جمة في طريقهم عبر اشتراطات و ممنوعات ما انزل بها من سلطان تحت عباءة الاعراف و التقاليد، فقد بقيت و الى سنوات خلت طقوس تستهجن ان يرتبط شاب بفتاة ليست من بلدته في فلسطين و احيانا اذا كانت ليست من عائلته تحت يافطات، اخفها تزمتا: ” الاقربون اولى بالمعروف… ” – فرعت مرام و احمد حبهما و داراه كم تدارى العيون من الرمد فكبر و تفولذ في افئدتهما و صدقا ما عاهدا نفسيهما عليه، فما ان حلت فرحة التخرج من الجامعة حتى اعلنا عن نيتهما في الارتقاء بحبهما الى مرتبة الزواج. و دخلا في حساب المسؤوليات و ما كان من احمد الا السعي وراء اول فرصة عمل سانحة في الخليج تعينه على بناء اسرته و مساعدة اهله، فنجحت مساعيه في السفر الى دولة الامارات و وفق بعمل جيد ادر عليه دخلا لا باس به مكنه بعد سنة ان يلم شمل اسرته المستحدثة والتحقت مرام باحمد ليعيشا بثبات و نبات و ليرزقا بابنهما البكر فؤاد و خلال سبع سنوات من الكد في العمل في احدى الشركات غدا احمد من اهم خبراء الشركة بشهادة اصحابها و غالبية العاملين بها و اشتعلت نيران الحروب المدمرة في المنطقة و ارخت بظلالها الثقيلة على نفسية احمد الشفافة كونه من المتابعين لتطورات الاحداث في العالم لما تحمله من اهمية تقريب اليوم الموعود في ان يخلع الفلسطيني عن كاهله صفة اللجوء، فما وفر في هذا المجال جهدا الا و بذله تبعا لما سمحت له به كل ظروفه، فانتقل لهيبها من تونس الى مصر فليبيا و سوريا و عم الدمار و الخراب في كل مكان و اضطر الملايين من مختلف المدن السورية الى ترك بيوتهم و املاكهم في محاولة للنجاة ب ارواح عائلاتهم بعيدا عن لهيب اتون الحرب التي اوقدت بتدبير فجذب المدبرون لها تجار الموت من كل اصقاع الدنيا بادارة و رعاية من راس هرم الهيمنة و التفرد الدولي و تمويل من مشيخات و ممالك يحرمون شعوبهم من ابسط حقوق المواطنية و يطالبون الغير بكل صفاقة باشاعة الديمقراطية..التي يحتاج مواطنيهم ولو الى رنينها!! بل و الانكى انه قد زج بالمخيمات في حرب… لا ناقة لاهلها بها و لاجمل ..!
و اشتد بؤس المخيمات اسوة بما اصاب اخوتهم السوريين الذين اكرموا وفادة الفلسطينيين منذ لحظات النكبة الاولى، بل و رحب بها بكل من ضاقت في وجهه سبل العيش في قطره القاصي منه و الداني او كما قيل من المحيط الى الخليج و امنوا لهم حياة حرة كريمة نسبيا لا تختلف فيها حقوقهم عن حقوق اهل البلد بشئ، مع الحفاظ على بوصلة المخيمات متجهة على الدوام نحو العودة الى ديارهم ما امكن الى ذلك سبيلا.. و في خضم هذا الجحيم الم باحمد الما ما عهده من قبل الما طغى على الجسد و احتله و بدا يقضم احشاءه كما تقضم المستوطنات الصهيونية اعز الاراضي الفلسطينية و اصابه فوق كل ذلك جرح في الوجدان و هلع على ما سيحل بالاهل و القضية و هم ثقيل على ما الت اليه الاوضاع في سوريا التي كانت وطنا عزيزا على قلب كل من مر بها منذ ان تعلم الانسان النقش على الحجر في راس شمرا و الى يومنا هذا.
جمعهما الحب و حالت دون وصالهما اسرة المستشفى فمرام تئن من الم المخاض في ثمرة حبهما الثانية “ريتا ” و احمد يخضع لعمل جراحي خطير في محاولة لتجريف ما خلفه ذلك البلاء الخبيث الذي انقض عليه فجاة ليكسر فرحته و اقدامه المتسارع في الحياة. و قبل ان يغادر المستشفى ابلغ بالغاء عمله بلا ادنى شفقة على حالته او مراعاة للجهود الجبارة التي بذلها في سبيل تطوير العمل و تحسين سمعته و بات بلا مورد للعيش، حيث اضطرت زوحته الى الاهتمام برعايته صحيا و رعاية رضيعتها ريتا فهو كمن ضرب فيهم المثل: ” رضينا بالهم و الهم ما رضي فينا ” او ” الصخرة التي تقلع من ارضها يخف وزنها ” فتسهل دحرجتها فالفلسطينيون اوفدوا خيرة ابنائهم مع زبدة خبرتهم ليعمروا لهم بلدانهم لكن مع اول فرصة للاستغناء عن خدماتهم بعد ان يكونوا قد امتصوا طاقة عملهم حتى النهاية، يلقون بهم الى قارعة الطريق بلا حقوق تقاعدية او حق في الاقامة بعد انتهاء مدة العقد لهم، حتى اطفالهم لا يحق لهم الالتحاق بمدارس الدولة من فيهم ابناء المعلمين !!!! … يا له من وفاء… بوفاء؟!
و دخلت مرام في حيص و بيص الظروف، فالحياة قاسية لا تمهل في انهاكها و فتكها لمن تصبه الدنيا بخبطة عشواء… انتهى زمن عقد عمل احمد و كان على مرام ان تقطر عائلاتها و تغادر قبل ان تتجاوز قانون الاقامة فليس لديها ما تدفعه من عقوبة لمخالفتها، و على متن اول طائرة غادرت الى تركيا فلا يمكنها العودة برجل مريض و طفلين الى بلدها التي يزداد اوار الحرب بها .. تحامل احمد على نفسه العليلة متكئا على اخيه محمد ماديا و معنويا و امنا عن طريق احد المتاجرين بالناس المنكوبة جوازات سفر مزورة ” مضروبة بلغة المهربين ” ممن امتهنوا التهريب بعد ان فشلوا في تكرار محاولة تهريب انفسهم، و جل اهتمام احمد هو ان يؤمن لزوجته و طفليه موطئا امنا يقيهم ذل العوز و السؤال لانه بات متاكدا بانه ماض الى نهايته المحتومة و بدا يعد ايامها و هو غير متاكد بانه سيرى شمس اليوم التالي ام تبتلع روحه عتمة الليلة الراهنة فهو و الزمن في حلبة مصارعة، ما هاب و لا تردد مما يتناهى الى مسامعه عن التخمة التي اصابت سمك البحر المتوسط من لحوم الغرقى من السوريين و الفلسطينيين الذين حاولوا عبور البحر على ظهر مراكب صيد خارجة من الخدمة، فمن نجا منهم من قبضة خفر السواحل المصرية و الليبية و التركية و اليونانية استقبلته الاسماك في عرض البحر و من طال عمره انقذته بواخر عابرة او بواخر تابعة للصليب الاحمر الدولي تجوب المياه الدولية على اثر ابلاغ تتلقاه من فاعلى خير و كثيرة هي القوارب التي تركت بحمولتها المضاعفة من البشر في المياه الدولية خشية من ان يلقى القبض على المهرب اثناء محاولته تجاوز المياه الاقليمية لهذا البلد او ذاك، و صل احمد و محمد اخيرا الى مطار مالمو و لكن قد فات المهرب ان ينبههما بان يعملا على اتلاف جوازي السفر السويديين المزورين قبل ان تحط الطائرة التي اقلتهم رحالها على ارض المطار، فالقي القبض عليهما و سيقا الى السجن بتهمة تدليس وثائق سفر و محاولة تجاوز الحدود بطريقة غير شرعية و بعد تفتيشهما بشكل شخصي بما في ذلك نزع ثيابهما عنهما، سجلت قائمة بمقتنياتهما و قامت مديرة السجن بوجود احد المترجمين الذين يجيدون العربية و قبل ان توجه لاحدهما اي سؤال طلبت تاكدهما من انهما يفهمان على المترجم جيدا – فقد جرت العادة بان يبدل المترجم اذا لم يفهم النزيل لكنته!!- ، بالاستفسارعن نوع الطعام الذي اعتادا تناوله، اهما نباتيين ام ياكلان اللحوم؟ و هل من انواع اللحوم من لا يستساغ اكلها لديهم؟!! و سلم لكل منهما ورقة باللغة العربية كتب عليها ماهي حقوق و واجبات الموقوف وجرى تعريفهما على سرير كل منهما و غرف الحمامات و صالة التلفاز و قاعة الطعام و امضيا عشرين يوما بالتمام و الكمال، يتناولون ثلاث وجبات يوميا و يستحمون متى شاءوا و للمدخنين غرفة خاصة و يعطى لكل منهم اربعة لفائف من التبغ و اذا لم تكفيه يحق له ان يوصي بشراء علبة سجائر من النقود التي اودعها عند مديرة السجن اذا كان لديه نقود، دون ان يمسهما احد بسوء او ان توجه لاحدهما اية اهانة مادية او معنوية، و ذهبت باحمد الظنون و الخشية من اعادة تسفيره، فاي بلد ستستقبله؟!!
و قد اجتر خياله من شريط ذكريات المعاناة الفلسطينية يوم احتلت العراق الكويت و ما جر ذلك نفسه على الفلسطينيين من طرد جماعي و بالجملة لعشرات الالاف ممن ساهموا في بناء الخليج منذ اللبنة الاولى فاعيدوا الى بلدان اللجوء الاولى التي يحملون وثائقها المؤقتة، و اضطرب قلبه اكثر عندما مر بخياله ما الت اليه اوضاع الفلسطينيين من غزة في حينها حيث ما لبثت الاف العائلات ملقاة على اراضي ترانزيت المطارات في شتى انحاء الدنيا دون ان يسمح لهم بالدخول حتى الى مصر التي يحملون و ثائقها!!!، و اشتد فؤاده المنهك هلعا عندما خطرت على باله عملية طرد الفلسطينيين من ليبيا و بشكل جماعي في 1993 بعد اتفاق اوسلوا و ظل الغزاويون اشهرا في الصحراء على الحدود المصرية- الليبية لحافهم السماء و فراشهم الرمال، اما الفلسطينيين من لبنان فقد ظلوا في البواخر في عرض البحر قبالة المياه الاقليمية اللبنانية اشهرا تحت دعوى حاجتهم لتصريح من احدى سفارات لبنان ليسمح لهم بالعودة، و من حيث لا يشعر لطم احمد كفا بكف و هو يتساءل ماذا سيحل بمرام و فؤاد و ريتا و هم الهائمين على وجوههم في مدينة بورصة التركية ينتظرون على احر من الجمر ان يتمكن احمد من الحصول على اقامة باسرع وقت ليلم شملهم و يكاد راسه ينفجر لانه لايجد جوابا على الاسئلة التي ازدحمت ملحة عليه فاعياه التفكير و عاوده الالم ، لكن الافراج عنهم شفع لروحه ان تاخذ قسطا من الراحة.
فرز احمد و اخوه الى مدينة “لاندسكرونا” الى سكن تابع لدائرة الهجرة السويدية بعد ان حدد لهما موعدا للتحقيق بعد ثلاثة اشهر نتيجة ازدحام المهاجرين من سوريا. لم تطل بهما الاقامة و لم يرتاحا بعد… من مشقة السفر و السجن حتى المت باحمد و عكة صحية جديدة، نقل على اثرها الى مستشفى جامعة مدينة لوند، تلك المدينة الشبابية الوادعة و الواقعة بين لاندسكرونا و مدينة مالموعاصمة جنوبي السويد و التي لا يفصلها عن كوبنهاغن، عاصمة الدنمارك سوى مضيق على بحر البلطيق و الذي كانت وسائط النقل فيه حتى قبل عشر سنوات تعتمد على قوارب سريعة تستهلك من وقت المسافر على متنها حوالى نصف ساعة لكن تلك الواسطة قد جرى الاستغناء عنها بعد استكمال انشاء خط بري يصل بين ضفتي هذا المضيق الشرقي ” اوستر سوند “، هذا الطريق المكون من جسر فوق البحر من الجانب السويدي و نفق تحت البحر من الجانب الدانماركي حيث ينفذ الى البر عند اقدام مطار كوبنهاغن، الجسر و النفق مكونان من طابقين خلابين للنظر، الاعلى منهما للسيارارات و الاسفل للقطارات. على احد اسرة المستشفى في قسم امراض السرطان استلقى احمد يجالسه اخاه محمد ليل نهار في ظل عناية مركزة من الاطباء و الممرضات و الممرضين و كافة العاملين الذين تفهموا معاناته الصحية و النفسية الاجتماعية، فقدموا له كل ما اوسعهم به العلم من خبرة متميزة، كما بادر طبيبه المشرف على استدعاء مندوب دائرة الهجرة على عجل، حيث استجابت المشرفة على ملفه بالحضور الى المستشفى و استكمال التحقيق معه مكتفية بالاسئلة الضرورية واعدة بان تسعى لاخذ قرار يمنحة الاقامة باسرع و قت ممكن، لان هذا القرار بدوره سيسهل و يسرع بجمع شمل اسرته بما لهذا من اهمية في خلق راحة نفسية لاحمد، حدث ذلك في يوم ثلاثاء ، لكن يد المنون كانت هي الاعلى فلفظ احمد انفاسه الاخيرة في اليوم التالي ” الاربعاء ” مساء و عمره لم يتجاوز ال35 عاما بعد . و كانما هي دورة حياة سمك السلمون الذي يقطع المسافات الشاسعة نحو اعالي البحار ليضع بيضه هناك و يعود سابحا عكس التيار الى موطنه الاصلي فتعترض طريق عودة اسرابه، الدببة التي تلتقط و تلتهم ما تيسر لها منهم و الصيادون ينتظرونهم على مقربة من محطة رحلتهم الاخيرة مستغلين قواهم الخائرة فيغدون صيدا سهلا و لا يصل منهم الا طويل العمر ليجدد الحياة لبني جنسه، و هكذا كان احمد في اخر لحظات صحوه يستذكر سيرة جده الداموني و حكايا جدته ام قاسم عن الوطن و تكرار والده فؤاد لسيرة العودة التي حملها امانة عن والديه و ها هو احمد قد جدد الحياة بفؤاد و ريتا تاركا اياهما في اعالي الغربة في حضن مرام التي احب حتى الرمق الاخير لتبثهم العزيمة على تجديد حلم والدهم في العودة الى الدامون فلا يسلى وطن يتجدد حلم العودة اليه من جيل الى جيل.
وهكذا امضى جثمان احمد شهرا كاملا في برادات المستشفى على امل استجابة الخارجية السويدية و دائرة الهجرة للرسائل المفتوحة التي حملتها صحيفة الكومبس و صحيفة مؤسسة النور و للمقابلة مع التلفزيون الرسمي و الاتصالات مع القنصلية السويدية في تركيا، و لكن لا حياة لمن تنادي… و لم يسمح لمرام كويفاتي و طفليها ان يلقيا النظرة الاخيرة على جثمان احمد الذي ووري الثرى في مقبرة مالمو الشرقية
بمشاركة بضعة من ابناء مخيم النيرب و اصدقائهم ممن تاهت بهم السبل و قادتهم الى اقصى شمال الدنيا شتاتا…!!
محمد قدورة
مالمو 18/2/ 2015