المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس
على هامش ما نشره، أو وعد بنشره، موقع "ويكيليكس" من وثائق يدفع ضريبتها مديره الأسترالي جوليان أسانج بملاحقة الولايات المتحدة الأميركية له، صُدم العالم بأدوات التحكم التي تستخدمها الحكومات في التجسس على مواطنيها، عبر شبكة الإنترنت بوسائل تقنية عالية زهيدة الثمن وسهلة الاستخدام، لم تحرَم منها الحكومات القمعية والتسلطية في دول العالم الثالث، بما فيها بلدان "الربيع العربي"،
على هامش ما نشره، أو وعد بنشره، موقع "ويكيليكس" من وثائق يدفع ضريبتها مديره الأسترالي جوليان أسانج بملاحقة الولايات المتحدة الأميركية له، صُدم العالم بأدوات التحكم التي تستخدمها الحكومات في التجسس على مواطنيها، عبر شبكة الإنترنت بوسائل تقنية عالية زهيدة الثمن وسهلة الاستخدام، لم تحرَم منها الحكومات القمعية والتسلطية في دول العالم الثالث، بما فيها بلدان "الربيع العربي"، لكن المفاجأة هي فشل الحكومات في حماية نفسها من طوفان الثورات، رغم إلمام أجهزة مخابراتها بكل شاردة وواردة، وتداعي الشباب للثورة علناً على صفحات التواصل الاجتماعي.
لماذا فشل "الأخ الأكبر" في الحفاظ على كرسيه، وأمسى إما وراء القضبان أو في جيرة "أخ أكبر" آخر أو في ذمة خالقه أو ينتظر مصيراً مجهولاً.
في روايته "1984" روَّعنا الروائي والصحفي الإنكليزي جورج أورويل بنبوءة تحويل الأنظمة الشمولية البشر في دولها إلى روبوتات تنتظم في أحزاب كرتونية وظيفتها تقديم فروض الولاء والطاعة العبودية لـ"الأخ الأكبر"، الذي يفرض سلطته وسطوته بجعل الناس يقاسون الألم، واستعباد عقولهم فكرياً وثقافياً لتمجيد "القائد الفرد". فـ"الأخ الأكبر" هو قائد الثورة ورمز السلطة والدولة وباسمه يدعو مواطنو بلده كل صباح وكل مساء. ويخبرنا أورويل على لسان أحد أبطال روايته، أوبراين القائد في وزارة الحب (المخابرات) في دولة أوقيانا المتخيلة، أن الإنسان "يؤكد سلطته على إنسان آخر بتعريضه للألم، فالطاعة وحدها ليست كافية، وما لم يعان الإنسان من الألم كيف يمكنك أن تتحقق من أنه ينصاع لإرادتك لا لإرادته هو؟ إن السلطة هي إذلاله وإنزال الألم به، وهي أيضاً تمزيق العقول البشرية إلى أشلاء ثم جمعها وصياغتها في قوالب جديدة من اختيارنا".
ويضيف أوبراين في الرواية محدثاً ونستون الموظف في وزارة الحقيقة (الإعلام): "هل تفهم أي نوع من العالم نقوم بخلقه الآن؟ إنه النقيض التام ليوتوبيا المدينة الفاضلة التي تصورها المصلحون الأقدمون، إنه عالم الخوف والغدر والتعذيب، عالم يدوس الناس فيه بعضهم بعضاً، عالم يزداد قسوة كلما ازداد نقاء، إذ التقدم في عالمنا هو التقدم باتجاه مزيد من الألم. لقد زعمت الحضارات الغابرة بأنها قامت على الحب والعدالة أما حضارتنا فهي قائمة على الكراهية، ففي عالمنا لا مكان لعواطف غير الخوف والغضب والانتشاء بالنصر وإذلال الذات، وأي شيء خلاف ذلك سندمره تدميراً.. إننا بالفعل نعمل على تفكيك العادات الفكرية التي ورثناها من العهد السابق للثورة.. كما سينعدم كل ولاء ليس للحزب، وسيباد كل حب ليس للأخ الكبير. ولن يكون هناك ضحك غير الضحك الذي يصاحب نشوة الانتصار على العدو المقهور، ولن يكون هنالك أدب أو فن أو علم، فحينما تجتمع في أيدينا كل أسباب القوة لن تكون بنا حاجة إلى العلم".
أقوال أوبراين جاءت في جلسات تحقيق مع ونستون الذي يمثل في شخصيات الرواية النخب الثقافية والإعلامية التي باعت روحها لـ"الأخ الأكبر" خوفاً من سطوته، لكنها أجادت تمثيل الدور على الآخرين حتى أقنعت نفسها به في عملية كذب على الذات.
مأساة ونستون، كما صورها أورويل في الرواية، أنه بدأ يتذمر من عمله في تزييف الحقائق، وأخذ يتملكه الإحباط من المنظومة الديكتاتورية للحزب، فاشترى مفكرة من محل أنتيكا.. ذهب إلى البيت وانتحى ركناً بعيداً عن كاميرات المراقبة المنتشرة في بيته وفي كل مكان من البلد، ثم بدأ يسجل أفكاره الخارجة عن قانون دولة أوقيانا، حتى انتهى إلى قناعة بضرورة الثورة على "الأخ الأكبر"، فبعد أن خسر آدميته ليس لديه ما يخسره.
مأساة ونستون الثانية أنه أحب "جوليا" ذات الشعر الأسود، وتبادل معها العشق والأفكار، أكبر خطيئتين في أعراف أوقيانا.
انتمى ونستون وحبيبته جوليا إلى تنظيم سري يدعى "الأخوية"، ظناً منه أن قائد التنظيم السري أوبراين يحيك مؤامرة ضد "الأخ الأكبر"، لكن أوبراين كان يلعب دوراً مرسوماً له، وعرف في النهاية كيف يروض ونستون الذي خان حبيبته وخان نفسه. في ختام التحقيق معه "حدق ونستون في الوجه الضخم، لقد استغرق الأمر منه أربعين سنة حتى فهم معنى الابتسامة التي كان يخفيها الأخ الكبير تحت شاربيه الأسودين وقال في نفسه: أي غشاوة قاسية لم يكن لها داع تلك التي رانت على فهمي، وعلام كان العناد والنأي من جانبي عن هذا الصدر الحنون. وسالت دمعتان سخيتان على جانبي أنفه. وكان لسان حاله يقول: لكن لا بأس، لا بأس فقد انتهى النضال، وها قد انتصرت على نفسي وصرت أحب الأخ الأكبر".
ببصيرة نافذة وبنبوءة مدهشة استطاع الروائي جورج أورويل، واسمه الحقيقي إريك آرثر بلير، أن يصور الواقع بعد نصف قرن من صدور روايته (1984) في عام 1949، لكن الفصل الناقص من الرواية، ماذا بعد أن حوَّل "الأخ الأكبر" البشر إلى أدوات تمجد القمع والاستبداد؟
بإسقاط الرواية على واقع حال البلدان العربية، لقد مرّت هذه البلدان بكل المراحل التي حدثنا عنها أورويل في روايته كأنه كان يقرأ طالع العرب منذ خمسينيات القرن الماضي إلى يومنا، إلا أن الفصل المتمم للرواية قلَبَ كل التوقعات، فالشعوب العربية التي ملّت من طوطم "الأخ الأكبر" ثارت عليه أخيراً، وأطاحت به، أو على وشك أن تطيح، وأفلتت من براثنه في ثورات استخدم من حضروا لها وأطلقوها أسلوب الدعوة العلنية والمفتوحة على صفحات التواصل الاجتماعي، والتجمع في الساحات بمبادرات مرتجلة وعفوية في البداية.
لم يكن "الأخ الأكبر" في عواصم "الربيع العربي" ليصدق أن الشعوب ستثور، وأن نهايتها لن تكون كنهاية ونستون في رواية (1984)، لكن حدسه خانه، فشباب ساحات التحرير والحرية والتغيير لم يعودوا إلى بيوتهم، ولم يستسلموا للقمع ليقولوا: انتهى النضال، وليكتشفوا أنهم يحبون "الأخ الأكبر"، بل كتبوا الفصل الناقص من رواية أورويل على يد الملايين من الأبطال المجهولين، فالعام 2010 الذي انطلقت في نهايته شرارة الثورة البوعزيزية في تونس لم يكن يشبه نهاية رواية (1984(.
أياً يكن جديد "ويكيليكس"، إن ما يعرفه الناس من لظى التجربة يكفي لطلاق أي "أخ أكبر"، والثورة عليه.