حامل الصليب في ليل الذئاب

: 3/28/17, 9:34 AM
Updated: 3/28/17, 9:34 AM
حامل الصليب في ليل الذئاب

المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس

مقالات الرأي: في البدء أعتذر من الشاعر سركون بولص على اقتباسي العنوان من ديوانه المعروف “حامل الفانوس في ليل الذئاب”، مع تحويرٍ بسيط.

كنتُ كثير التردد، شديدَ الحذر، في الخوضِ في موضوعة سبي المسيحيين وتهجيرهم، لأني، وببساطة، لا أريد أن أُصَنَّف ضمن منطق الانحياز إلى قضية بشر سنداً إلى الإنتماء الديني. لكن أن تدخل هذه القضية دائرة العماء الأخلاقي، أجدني مُجبراً أخلاقياً، وإنسانياً أن أبوحَ بما في سريرتي، فلا حيلة لي إلى السكوت. الصمتُ “إثمٌ” إزاء قضية بشر لم يعرفوا يوماً طريقاً إلى الحقد، ولا مارسوا سياسة الإنتقام تجاه أية ملَّة.

ليس لي طموح، أنا العراقي حتى النُخاع، المسيحي ضمن ترتيب قَدَري، وعائلي بالسليقة، أن أرفع راية الإنجيل ولا أريد، هنا، أن استنطقَ التعاليم المسيحية التي تربينا عليها والتي تجنح جميعها للمحبة والخلاص من الخطيئة.

المسيحيون الذين ولِدوا على أرض السواد، نَسْلاً وعِرْقاً، هم عراقيون بالأصالة، منذ كلكامِشَ وآشور بانيبال وحتى “يوم العراق”. هذا يقينٌ لا يُناقش، ولا يُغتَفر إن حصل أيَّ ادِّعاء أو فذلكة تدَّعي عكس ذلك. رغم أننا حُشِرْناً حشراً تحت مسميات شتى: “مسيح، نصراني، أهل كتاب، كُفَّار”، وغيرها من المسميات التي تٌفرغ العراقي المسيحي من أصالته الحقيقية في الإنتماء إلى بلاد أسمها العراق. كأنها الحيلة المرتَّبة، منذ زمن بعيد، لمثل هذا اليوم الذي حلَّ كي يتم الإنتقام من المسيحيين الذين وجِدوا على أرض ما بين النهرين قبل أية ملَّة أخرى.

لم نعرف العزْلة، ولم نسكن في كانتينات مغلقة ومعزولة عن بقية العراقيين. ولِدْنا، وكبرنا، وتقاسمنا الرغيف والهم والغم، والفرح والهزائم، والقليل من الانتصارات مع مختلف الطوائف والأجناس والأعراق والأديان التي شاء لها قدرها أن تكون لها حياة على هذه الأرض الطيبة، أرض العراق النَحس.

هل تريدون أن أحدثكم، أنا البَصْري بالولادة والإنتماء، كيف كُنَّا نتشارك وإخواننا المسلمين أعيادهم ومناسباتهم الدينية، وعلى وجه الخصوص أيام عاشوراء؟ مَنْ يُصدِّق، في أيام الطفولة، كيف كنا نتشارك وأهل الحارة، و”الدربونة”، في السهر إلى الصباح، وتوزيع “الهريسة” في العاشر من محرم، والمشاركة في المسيرات الحسينية. من يُصدَّق أننا كنا نُخبئ “القامات”، والأكفان المدماة، في بيتنا، لأننا كنا العائلة المسيحية الوحيدة في إحدى أزقة العشَّار، يوم كانت السلطات تحرم على الشيعة ممارسة عادة التطبير.

نحن شرقيين بامتياز. ولِدنا بسحنات سمراء في الغالب، لم يكن شعرنا أشقر، ولا أعيننا زرق، لذا لم نتميز عن أقراننا من أهل الديانات الأخرى، لا في الشكل، أو اللغة، والملبس، وغيرها.

كان العراق، وسيبقى رغيف يقيننا، والضمير الذي لن نشكَّ بأمره، سواء هُجِّرنا، أو اغتُصِبت حقوقنا. هو حلمنا الأبدي، ومن يشكَّ بذلك فليتفضل باستنطاق حلمنا بأية وسيلةٍ يشاء.

ما ذنبنا أننا حُمِّلنا الخطيئة، وكان لزاماً علينا أن ندافع عن يسوعنا الذي ارتقى الجلجلة من أجل فكرة سامية؟ أكان لِزاماً علينا، أيضاً، أن ندع أكتافنا تتدلى من ثُقل الصليب؟ أكان على حامل الصليب في ليل الذئاب أن يكتم تمتمات صلواته خوفَ أن تُكتشف، وحتى لا يتهموه بالكُفر؟ وأن لا يتحول إلى حقلٍ خصبٍ للرماية وإفراغ رصاصات الغدر والحقد غير الآدمي على يد القيافين الذين يستطلعون طريق الموت برفاهية المقتدر الجبان المسربل بخيال المنتصر على بشر مسالمين.

ألا يكفي أنَّ كل خِراج العراق، تحت الأرض وما فوقها، هو ملكٌ لكم، والذي تم الاستيلاء عليه، بواسطة القفز على دبابة الأجنبي المحتل، واستقويتم بغلبة الغريب، بـهذا “المسيحي الأمريكي، والأوروبي”، على أهلكم حتى أتيتم على أملاك المسيحيين العراقيين، حيث وقف المسيحي الأوروبي يتفرج على مهزلة سبي المسيحيين العراقيين وتهجيرهم وقتلهم وسلب ممتلكاتهم. أهذا التغاضي عن هذه الجرائم البشعة هو اتفاقٌ ضمني بينكم وبين المحتلين؟ أهذا هو عرفٌ أخلاقي بينكم وبين المحتلين تمت صياغته بحبر الغُزاة. أعلى الغزوات والسبي، أن تعيدا تاريخها على هيئة مهزلة؟

أهي البطولة بعينها في تصفية المسيحيين من باعة المشروبات الروحية، التي يهرع المسلم إلى شراءها وشربها قبل المسيحي، وفي سن قوانين تحريم بيعها من أجل أن تُروَّج عبر السوق السوداء، فتتاجر بها ألأحزاب الدينية الحاكمة.

عجيبٌ، غريب، هذا التكيُّف السريع مع النهب والسلب وتحويل الفساد والرشوة إلى منظومة طبيعية ضمن سياق إدارة دولة مُنْتَهكة، وكأن الأمر يسير ضمن سياق طبيعي، خلال سنوات معدودات. غريب هو هذا البزوغ السريع لأصحاب الملايين كم علي بابا علينا أن نحصي في هذا العراق المظلوم.

حتى ممتلكات المسيحيين الذي هاجروا وهُجِّروا، والتي تُركت في بقية أنحاء العراق، تم الأستيلاء عليها وبيعها بين السماسرة، والقوادين، أصحاب السِّحت الحرام، ولم يتم محاسبة أحد على هذه الجريمة البشعة.

ألا تستحق جريمة “الخِلافة” التي نفذتها مخلوقات متوحشة، بجسارة حيوانية، إكراهاً بحق النساء والفتيات القُصَّر من المسيحيات والأيزيديات، من سبي واغتصابٍ، اعتماداً على حيلة من حيل الاتكاء على نصوص دينية استُلَّت من بطون كتبٍ صفراء، كي تستوفي شروط الفِعْلة الدنيئة هذه، أن تُصنَّف في خانة التعدي على الشرف الآدمي، أم أن هذا الشرف بُنِيَ على قدْر منحاز، حسب “النقاء الطائفي” في الإنتماء الديني.

أم: “لهوى النفوس سريرةٌ لا تُعْلَم”.

أنبقى نتغنى بالمتنبي صاحب البيتُ الشعري الذي يُشمُّ منه سادية منفلتة من فصاحتها:

“لا يسْلمُ الشرفُ الرفيعُ من الأذى

حتى يُراقُ على جوانبهِ الدمُ”.

لكني أجزمُ أن أي مسيحي لم يفكر يوماً بما قاله المتنبي أيضاً:

“ومن نكدِ الدنيا على الحُرِّ أن يرى

عَدُواً له ما من صداقته بُدُّ”.

حتى لو تم تحرير نينوى وعاصمتها الموصل، أثمة للمسيحي، بعد الآن تحصينٌ ذاتي، أن لا يتكرر ما جرى له على أيدي عصابة “داعش”؟، وأن ينعم بوجودٍ عادل، ويُعاد لهُ ما تم سلبهُ من ممتلكاته التي حوِّلت إلى مغانم؟

أعليه أن يتحوَّط من كمينٍ آخر تحت مسمى جديد في قابل الأيام والأعوام؟

ختام القول: أن كل من صمتَ، أو “غلَّسَ”، أو أغمض عينيه، عن هذه الجرائم الفاشية التي حصلت بحق المسيحيين المسالمين ما هو إلاَّ شريك في هذه الجرائم.

وليد هرمز

السويد/ يوتوبوري

Alkompis Communication AB 559169-6140 © 2024.
cookies icon