“رائحة الحبر” في ستوكهولم: مسرحية تجسد الصراع الداخلي لمثقف عانى الإهمال

: 11/20/17, 10:47 AM
Updated: 11/20/17, 10:47 AM
“رائحة الحبر” في ستوكهولم: مسرحية تجسد الصراع الداخلي لمثقف عانى الإهمال

المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس

الكومبس – ثقافة: قدمت فرقة (جدارا) للتمثيل مسرحيتها الجديدة رائحة الحبر (Doften av Bläck)، على مسرح ريفلكس (Reflex Teater)، في ضاحية (شارتوب) جنوب غرب العاصمة السويدية ستوكهولم، مساء السبت (11/ 11/ 2017)، بحضور ملفت من الأدباء والفنانين العراقيين والعرب والسويديين، وجمهور واسع ونوعي من المهتمين، والمسرحية من تأليف (هشام شبر)، إخراج (محمد صالح)، تمثيل الفنانة (عاتية سلام) والفنان (محمد صالح)، إشراف لغة وديكور (سمية ماضي).

وقال المخرج في كلمة له: (الساعة متسخة بالوقت، أبدأ أو ربما أنتهي، لست أدري)، وكانت لفرقة (جدارا) كلمة جاء فيها: “كانت وستظل فرقة (جدارا) المسرحية، تتطلع وتناضل في المهجر على رفع مستوى مبدعيها، من الفنانين والفنيين لترتقي إلى الإندماج والتلاقح، مع الحركة المسرحية السويدية كوننا جزء منها، مع الإحتفاظ والإعتزاز بوعينا المسرحي وإرثنا الثقافي، لنسعى معاً لخلق الإنسان العربي المبدع، وتأتي مسرحية (رائحة الحبر) لمؤلفها هشام شبر ومخرجها محمد صالح خضير، تأكيداً لدعمنا لكل مبدع، ونسعى دائماً لصنع الفرح والجمال ونشر الحب”.

النص المسرحي

إن النص المسرحي هو: عبارة عن قصيدة شعرية، والقصيدة الشعرية عادة تفتقد إلى الدراما والحبكة المسرحية، كونها تحمل مفردات صورية عن الواقع الذي يعيشه الشاعر نفسه، والتي انعكست على دور البطل في المسرحية وعلى القدرة الدرامية على المسرح، “كل بداية جاهلة إلا بداياتي، فهي تفترسني معرفة، وتضعني في قفص غربتي، إرجوحة أنا، لم أتمالك نفسي، كنت وسادة أو حلماً، وحين انتفضت تراكم الضجيج حولي حتى ضاعت وجهتي، بحثت وبحثت وبحثت حتى نسيت عما أبحث، ولماذا؟ المحطات ولت هاربة من هذيان تشكل حقيبة، لا مجال للرحيل لا مجال لا مجال، دعونا نبني منفى، نبني منفى، أرى من بعيد ظل، ظل من؟ غبي أبقى! غبي، إنه ظلي”، وقد استطاع الزوج (صالح) أن يوصل أبعاد الشخصية في النص الشعري ويجسدها بشكل جيد، حيث أستطاع أيضاً أن يرفع من قدرة أداء الزوجة (نور)، وأن يرتقيا معاً بالنص الشعري إلى حدث مسرحي، وتمكنت نور من مواكبة الحدث بما يوازي أداء صالح.

الفكرة المسرحية

الفكرة المسرحية هي: صراع داخلي مع شخصية أدبية (صالح)، عانت الإهمال والتجاهل وعدم الإهتمام من قبل المؤسسات الثقافية والإعلامية، بحيث خلقت في نفسها أعداء لنفسها، وظل (صالح) يثرثر طوال الوقت مع زوجته (نور)، في تهويمات فضائية لا قيمة لها، ولم تلق صداها لدى زوجته اليائسة، “أنا الآن في منتصف أبدأ، أو ربما أنتهي لست أدري! الساعة متسخة بالوقت، طالب في كلية الآداب كنت بلا آداب، اضطهدني الوقت واضطهدته، كنت أكتب وأنا أحلم ببناء قصيدة، لكني انتهيت غربة غريبة بلا وجهة بلا وطن، أحضنيني كي نعبر معاً نقصنا ونكتمل، إنه وقت الحلم يا نور، وقت الحلم! أعشقه كالجرح، لا أحب له شفاء حتى أتلذذ بالألم، في وقت طفولتي كانت روضة حلمي حقيبة، أحملها لتدلني مدرستي، لم أكن أعلم أنها ستشنق أنفاسي، وتمنعني من رؤية آثاري، فكيف أعود؟ هل تسمعين؟ أنا في منتصف ليس أنت فيه، هو ذا العمر وهذه بعض احتمالاته، ربما أموت في نصفي، وربما في نصفك تموتين، ألا ترين أني سآوي حضن مقصلة، يا لأنت ودهشتي تتباعدان سراب، تعبت أنا، أنفاسنا تتقدم ودهشتنا تكبر، ولا معنى لوجودنا داخل دائرة تلطم على رؤسنا حد الانتحار، أخاف أن أنام ويداهمني الموت”.

من هذا يتضح بأن المؤلف قدم لنا في النص الشعري، شخصية تعاني من الإزدواجية والإنفصام، وقد انعكس هذا الإحباط النفسي سلباً على شخصية الزوجة (نور)، مما دفعها في بعض الحالات للتمرد على خيالات وتهويمات الزوج (صالح)، واتهامها له بالخروج من الواقع، ليعيش في دوامة الفشل والإحباط، ووصل بها اليأس في بعض الحالات لإتهامه بالجنون، لكن في هذيان (صالح)، كان هنالك الكثير من الحقائق الدامغة، التي لا يرغب في معرفتها الكثير من الناس: “يا سيدة الهزائم! أنا كاتب، حاولت جاهداً أن أكون، لولا رصاصة النسيان، التي استقرت بذاكرتي وأعطتني بطاقة العوق، هل تعلمين أن في داخلي طفل يصرخ؟ هل تعلمين أنني ألد كل يوم ألف من الأوراق؟ يا سيدتي: لازلت أتذكر يوم كنت أعتلي خشبة المسرح، وكنت أنت! نعم أنت بين الجمهور تصفقين لي بكلتا روحك، ولكن حين فقدت بعضي في حرب ملعونة، ضاقت الدنيا في عيني الوحيدة، فسخرية القدر، أنني لست كريماً فحسب! وإنما كريم العين أيضاً، هل تسمعيني؟ هل تسمعين؟ ها أنا أصرخ بكل الكون، كل الكون، خذوا أوراقي ورائحة الحبر التي أتعطر بها، وأعيدوا لي وطن، أو بعض منفى، في متحف ولدت، ومن يومها وأنا أحاور الأصنام، تعبت تعبت تعبت، في لحظة تهدمت الدنيا خيانة، وطمرنا تحت التراب، ومن يومها، ونحن نعاقر أنفسنا ثمالة، تعبت من ذاكرة صلبت، وهي تقرأ آيات من المقدس في لحظة جبانة، أنا أبن تغيير، لازم المكان وأدعى حياة أجمل، أنا أبن عهر، كمم أفواة الأصنام خجلاً، هل عرفت لما نحن طين رائحته موت؟، هل عرفت سر تصدعنا، كيف لنا من خلاص؟ وقد تبللت ثيابنا خوفاً”.

العرض المسرحي

كان الإخراج المسرحي جيداً وموفقاً، وقد تعامل المخرج محمد صالح، بحرفية عالية مع النص الشعري، بعيداً عن الصيغ الإلقائية الخطابية أو مسرحة القصيدة، وقدم لنا صالح عملاً مسرحياً متكامل الأركان، بالرغم من عدم الإلتزام بإملاء جغرافية المكان بحضور درامي متوازن، بحيث أهملت الجهة اليمنى من المسرح تقريباً، وتم التركيز فقط على يسار المسرح ووسطه أحياناً، ولم يتم استخدام المدرج في عمق المسرح بشكل جيد، بحيث حرم المشاهد من متعة النظر إلى كل زوايا وأبعاد المسرح، وحددت حركة الممثلين في بقع ضوئية معينة، إضافة إلى أننا لم نشعر بأية علاقة عاطفية حميمية بين الزوجين، كما هي جلية وواضحة في النص المسرحي، أما الديكور فكان بسيطاً ومبالغاً فيه في آن واحد، قياساً بحالة الفقر التي يعيشها صالح وزوجته نور، مثل الأسرة المهملة في العمق، لكن استخدام الورق كغطاء للنوم، كان فيه لمسة فنية واضحة، وكانت الأزياء عادية جداً وتتناسب مع الأدوار التي لعبتها الشخصيات في المسرحية، إلا أن هناك بعض الأدوات في الأزياء والإكسسوار، لم توظف للشخصيات بشكل أكبر، كالشال الأحمر مثلاً، وكان بوسع الزوجة والزوج أن يخلقا منه لوحات وتشكيلات فنية وصور تعبيرية رائعة، وفي الإنارة كانت البقع الضوئية (البوستات)، غير موفقة في متابع الممثلين عند الحركة، إلا أن الإنارة الفيضية كانت جيدة، والموسيقى هي عبارة عن أغان عراقية قديمة في البداية والنهاية، تعاطف معها الجمهور لما فيها من شجن وحنين.

مسرحية (رائحة الحبر): أعادت للمسرح العربي في السويد بعض توهجه، بعد انقطاع لسنولت عديدة، وقد كان ذلك واضحاً، من خلال تفاعل جمهور الحاضرين، مع أحداث المسرحية وأداء وحركة الممثلين، وهذا يحسب لفرقة (جدارا) المسرحية، وللمخرج الفنان محمد صالح وللممثلة عاتية سلام، ولكل كادر العمل في المسرحية، وقد كانت اللوحات التعبيرية الصامتة من خلال أجساد الممثلين رائعة جداً، خصوصاً اللوحة الأخيرة التي تذكرنا بحكاية (شهريار وشهرزاد)، فكانت بمثابة تمرد على الحزن الذي يعتريهما، إضافة إلى بعض اللوحات التعبيرية السريعة من خلال التكوين الجسدي، وتبقى مسرحية (رائحة الحبر)، كما أراد لها المؤلف والمخرج أن تكون، غش على مستوى العبث.

محمد المنصور

Alkompis Communication AB 559169-6140 © 2024.