المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس
إهداء وتبادل الأطباق الرمضانية
الكومبس – رأي: إهداء الأطباق الرمضانية وتبادلها هو تقليد اجتماعي وثقافي يضرب بجذوره في عمق التاريخ، ويرحل مع المرء حيثما حل أو ارتحل، وهو موروث رائع وتقليد هادف يتمتع بفضيلة أصيلة وروحانية خاصة.
هذه النفحات الروحانية الطيبة التي تحوم حول هذه التقاليد الإجتماعية الهادفة تتخلل بلطافتها فاعليات مواسم الطاعات بمختلف زواياها ولحظاتها خاصة خلال شهر الله الكريم شهر رمضان المبارك بما تشهده لياليه الخاشعة، وبما تحويه أحضان أيامه المباركة. إنها روحانيات غنية القيمة غالية المعنى، لا يستطيع أن يُعبر عنها إلا من يُعايش أثارها، ومن يتفاعل مع أحداثها، ومن يجني ثمارها.
وتُعتبر هذه التقاليد الرمضانية المباركة تجسيدًا واضحًا لروح التضامن وترجمة عملية لتقوية سلوك التآخي بين أفراد المجتمع من جهة وبين فئاته المتباينة في أصولها وتطلعاتها من جهة أخرى، حيث يتشارك الناس على تنوع مشاربهم أنواع الطعام بمختلف مستويات الضيافة مع بعضهم البعض في أجواء روحانية عالية.
كما يُعتبر إهداء وتبادل الأطعمة، وتنظيم الإفطار الجماعي بين الجيران والزملاء والأقارب والأحباب، خلال شهر الكرم والعطاء فرصة عظيمة للتعارف، فرصة لتبادل الأحاديث الثقافية، فرصة لاستثمار الخبرات والتجارب الإجتماعية، فرصة لا تعوض للإلمام بقضايا المجتمع العامة، وفهم البيئة المحيطة وتقوية للبيئة الحاضنة، فرصة لإظهار التوحد مع الأمة الممتدة وقضاياها.
إقامة موائد الرحمن لإفطار الصائم، وتنظيم الإفطار الجماعي في المدارس والجامعات وأماكن العمل ومراكز التجارة والتسوق كما في دور العبادة تعكس فيما تعكس قيم التسامح والعطاء والتعاون والتضامن، وهي من الفاعليات الهامة في الموروث الإنساني في نفس كل مواطن وإن كان غير مسلمًا.
” كلنا صايمين “
ما أجمل أحداث الزمان حين تتلاقى المناسبات حيث يبدأ الصوم الكبير لأتباع بعض الكنائس.. كالكنيسة القبطية الأرثوذكسية التي تبدأ صيامها هذا العام مع بداية شهر رمضان الكريم 1445 هـ، وذلك يوم الإثنين الموافق 11 من مارس 2024 م، وهو حدث نادر لا يتكرر لعشرات السنين.
ومع بداية الصوم ينصب جُل اهتمام الإنسان على تعميق وتنمية علاقته بخالقه ورازقه ومولاه عن طريق مزيد من التقوى، مزيد من العطاء ومزيد من الصدقات وإقامة الصلاوات وإخلاص الصوم وباقي الأعمال لله الواحد الأحد الذي وهب الحياة وإليه يعود الأمر والمآل.
فما أكثر فعالياتنا الإجتماعية المنتظرة على موائد الرحمن لهذا الموسم الرمضاني المميز لعامنا الحالي الذي نرجوا أن يعم فيه الخير والسلام جميع أنحاء العالم. فالفاعليات الرمضانية في مجملها تعزز فيما تعزز من قيم التواصل والتفاعل على المستوى الفردي كما على مستوى فئات المجتمع بأثره.
وبرغم تحرج أو تعذر البعض لظروف التباعد الإجتماعي الذي قد يفرضه التقدم التكنولوجي أو بعض ظروف واقعنا الغربي بشكل عام.. إلا أن غالبيتنا قد تعودَ منذ صغره ونعومة أظافره على رؤية طبق أو طبقين على الأقل على مائدة الإفطار الرمضانية من إهداء الجيران، التي تقابله الأمهات والأسر غالبًا بإرسل المزيد من صواني الطعام إلى الجيران من المسلمين وغير المسلمين على السواء. وهكذا يستشعر الجميع روح العائلة الواحدة في ترابط أفرادها، وإعلائهم من قيمة التضامن فيما بينهم.
إهداء وتبادل الأطباق والصواني الرمضانية، وتنظيم الإفطار الجماعي، وإقامة موائد الرحمن تقليد رمضاني يجمع بين روح العبادة وتفاعلية التكافل الاجتماعي، حيث يسهم في تعزيز الروابط الاجتماعية والتخفيف عن أصحاب الحاجة من كبار السن والمرضى وأصحاب القدرات الخاصة وساكني دور الرعاية.
إهداء وتبادل الطعام يعكس حس الترحيب والتكافل بالقادمين الجدد، ويساعدهم على الاندماج الإيجابي بسلاسة في مجتمعاتهم الجديدة.
إهداء وتبادل الطعام هو دورة تدريبية عملية هامة لتهيئة النفوس ولتعويدها على مد يد العون للأسر المحتاجة، مد يد العون لضحايا الفقر والعوز والفاقة، مد يد العون لضحايا الحروب والإهمال.. مد يد العون للآخرين مهما اختلفت أصولهم أو بعدت أماكن تواجدهم.
إهداء وتبادل الطعام يعكس روح الرعاية وحب التفاني في مساعدة الآخرين والتخفيف من آلامهم ومعاناتهم.
كان النَّبيُّ محمد صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم يُربِّي النَّاسَ على فَضائلِ الأعمال ومكارِمِ الأخلاق حتَّى يكونَ المجتمعُ مُتحابًّا متعاوِنًا؛ وبيَّن ما لذلك من أجر عند الله تعالى، ومما خاطب الناس به ( يا أيُّها النَّاسُ أفشوا السَّلامَ، وأطعِموا الطَّعامَ، وصِلوا الأرحامَ، وصلُّوا باللَّيلِ والنَّاسُ نيامٌ، تدخلوا الجنَّةَ بسَلامٍ ). ومما روي عنه أيضًا صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ( من فَطَّرَ صائمًا فله مِثْلُ أجرِهِ، ومن دَلَّ على خيرٍ فله مِثْلُ أَجْرِ فاعِلِهِ ).
ومما جاء في كتاب الله عز وجل: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }( الحجرات 13 ). { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ …}( الشورى 13 ). { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ }( الليل 5 – 7 ). { وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }( المنافقون 10 – 11 ). { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ }( القصص 77 )
والخلاصة:
أن الحرص على الإخلاص في التصدق، والتجرد في الإنفاق، والتعود على إهداء وتناول الطعام مع الآخرين، والاهتمام بشؤون عامة الناس في شهر الصوم شهر رمضان المبارك يمثل قِيمًا إنسانية نبيلة ومُثلًا إجتماعية رفيعة، قِيمًا هامة في مُجملها تعود بالنفع على جميع أفراد وفئات المجتمع، قِيمًا تحتاج إلى مزيد من التشجيع والدعم، بغض النظر عن مكانة وإمكانيات المرء الشخصية أو خلفيته الثقافية أو تطلعاته الإجتماعية.
رمضان كريم، وكل عام والجميع بخير
طاهر أبوجبل