المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس
الكومبس – مقالات الرأي: هذه الشخصية الأخيرالتي يتناولها الكاتب رشيد الحجة، ضمن سلسلة كتابات عن شخصيات سويدية أثرت بالقضية الفلسطينية، شخصية هذه الحلقة هي: سيرة داج همرشولد 1905 – 1961
شخصية داج همرشولد، الأمين العام الثاني للجمعية العامة للأمم المتحدة.
الكومبس – مقالات الرأي: هذه الشخصية الأخيرالتي يتناولها الكاتب رشيد الحجة، ضمن سلسلة كتابات عن شخصيات سويدية أثرت بالقضية الفلسطينية، شخصية هذه الحلقة هي: سيرة داج همرشولد 1905 – 1961
شخصية داج همرشولد، الأمين العام الثاني للجمعية العامة للأمم المتحدة.
تعتبر عائلة همرشولد التي ينحدر منها السيد داج من طبقة النبلاء في المملكة السويدية منذ العام 1610. كان أبوه" يلمار همرشولد" على سبيل المثال بروفسور في علوم القانون وتدرج في وظائف الدولة إلى أن أصبح رئيسا للوزراء مابين العام 1914 وعام 1917. أما داج نفسه فقد ولد في مدينة يونشوبينج بتاريخ 29 تموز/يوليو من العام 1905 في الوقت الذي كان يشغل فيه والده يلمار منصب وزير التعليم. وفي العام 1907 الذي أصبح فيه يلمار رئيسا لمحافظة أوبسالا انتقلت العائلة إلى هناك ليترعرع داج في تلك المدينة الجامعية. تدرج داج في دراساته حتى حصل على درجة الدكتوراه في علوم الإقتصاد الوطني في عام 1933 . أصبح داج بعدها رئيسا للبنك المركزي من عام 1941 وحتى 1948. عبر بعدها إلى عالم السياسة ليصبح السكرتير الأول في وزارة الخارجية من العام 1949 وحتى العام 1951، حيث تسلم وزارة في حكومة تاجه إيرالندر، حتى يوم تسلمه المهمة الدولية كأمين عام للجمعية العامة للأمم المتحدة. كما شغل داج أيضا عضواً في الأكاديمية السويدية بعد وفاة أبيه في العام 1953، الذي كان يشغل نفس المنصب.
كان همرشولد ذكيا وخجولاً، وعالي الإنضباط. وكان يعمل بشكل مركز ودقيق دون كلل في أي عمل يشارك به، ولاينام إلا قليلا، ويقرأ كثير. كان معجبا بالشعر وبالفلسفة وتحديدا بفكر الفيلسوف اليهودي مارتين بوبر، وخاصة فلسفة الحوار التي آمن بها ليطبقها في عمله. وحاول داج ترجمة كتاب بوبر "أنا وأنت" إلى اللغة السويدية. وعثر على نسخة من هذا الكتاب بين أمتعة داج همرشولد التي كانت برفقته على متن الطائرة التي "فُجرت" به. وكانت كتابات همرشولد التي جُمعت في كتاب تحت عنوان "خارطة الطريق" متأثرة جدا بتلك الفلسفة. وكان من بين أوراقه العديد من المراسلات والمدونات حول العلاقة بين الشخصين ولقاءاتهما. وعلى موقع الإنترنيت الخاص بالسفارة الإسرائيلية في العاصمة السويدية، ستوكهولم، يُذكر : "بأن همرشولد قد زار بوبر في بيته في القدس، كما والتقى الشخصان في مقر همرشولد في الولايات المتحدة الأمريكية… لقد كان واحدا من كبار الشخصيات السويدية في القرن الماضي، التي اعتبرت الفلسفة اليهودية كروح وموجّه اخلاقي لها".
هذا وأتقن داج اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية إضافة إلى لغته الأم السويدية. وقضى حياته وهو عازبا متفرغا للعلم والسياسة، وذكر في أحد مقابلاته الصحافية بقوله: "ينبغي على الأمين العام للأمم المتحدة أن يتمتع بصحة حديدية وأن يكون أعزبا". ومن كتاباته قوله: " من السهل إلقاء المسؤولية على الآخرين أو التفتيش عن مبرر عند نوع من قوانين التاريخ. والأقل سهولة هو التفتيش عن الأسباب التي بداخلنا أو في أحد الجوانب التي نحمل فيها جزءاً هامّاً من المسؤولية".
أحب داج الطبيعة والمسير وتسلق الجبال، وسافر إلى معظم بلدان العالم، برفقة كاميرته التي التقط بها العديد من الصور، وقال عنها: " لقد علمتني الكاميرا أن أرى".
وكان من ميزات داج في تعينه في هذا المنصب حياديته وحيادية دولته، في وقت كان الصراع في العالم على أشده من حروب ساخنة وأخرى باردة. كما كانت وقتئذ مؤسسة الأمم المتحدة تعاني من ترهل واختراقات من داخلها.
الأوضاع الداخلية في مؤسسة الجمعية العامة للأمم المتحدة
في العام 1952 استقال الأمين العام الأول للجمعية العامة للأمم المتحدة النرويجي، تريجفة لي. تم على إثرها ترشيح عدد من الشخصيات لإشغال هذا المنصب، وكان من بينها السويدي داج همرشولد. الإنسان الذي أجمعت عليه كل الدول. لم يكن داج ينتمي لأي حزب سياسي في بلده، على الرغم من وجوده كرجل دولة في الحكومة السويدية، الدولة التي تميزت بحياديتها ماقبل وأثناء وبعد الحرب العالمية الثانية. الحر التي قسمت العالم إلى كتلتين شرقية بقيادة الإتحاد السوفييتي، وغربية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية. وقيل بأن انحياز الأمين العام الأول للطرف الغربي جعل من السوفييت خصومة قوية ضده، وهذا مادفعه للإستقالة.
ترك داج همرشولد كافة واجباته وأعماله في السويد ليتفرغ للعمل الأممي، وغادر إلى مقر الأمم المتحدة في نيويورك ليستقبله هناك الرئيس المستقيل تريجفه لي. تسلم داج مهامه في المؤسسة العالمية بتاريخ 10 نيسان/أبريل عام 1953.
كانت الفوضى مستشرية داخل السكرتارية، فما كان على همرشولد إلا فرض قواعد عمل جديدة، وأجرى العديد من التعديلات والتنقلات بين الموظفين، وألغى وظائف مساعدي رؤساء الأقسام، وقام بتنظيمات هيكلية جديدة، وقلص نتيجة ذلك الكثير من المصروفات التي أثقلت كاهل الميزانية. وأضاف حتى على مبنى الأمم المتحدة المسحات الفنية، واهتم كثيرا بأثاث قاعات التأمّل.
وكانت منظمة الأمم المتحدة، حينها مرتعاً للدول الإستعمارية الغربية. وكان همرشولد يمقت الكولونيالية. فما كان منه إلا اتخاذ الخطوة الأكبر، وهي إلغاء ماكان قد سمح به الأمين العام السابق تريجفة لي، لجهاز الإستخبارات الأمريكي المدعو مكتب التحقيقات الفدرالي "أف بي آي" بالتواجد داخل المبنى. فعمل داج على الفور بطرد عناصر هذا الجهاز من المبنى، وأمر العاملين تحت أمرته في كامل المبنى على ألاّ يجيبوا على تساؤلات جهات خارجية، إلا إذا تعلق الأمر بعمل غير قانوني أو جريمة ما. لقد كان مكتب التحقيقات يسرح ويمرح هناك للمراقبة أو للتحقيق مع من يشتبهون به من ألف وستمائة وثمانين موظفا أمريكيا كانوا يعملون في المبنى. . فقال داج ذات يوم مخاطبا عناصر مكتب التحقيقات الفدرالي:
" ليس هنا من شيئ تفعلونه هنا.. وإذا كان مُرخّصا لكم سابقا في ذلك، فرخصتكم مسحوبة الآن".
الأوضاع الدولية
كان داج همرشولد يرى في المهمة الأكبر للجمعية العامة للأمم المتحدة هي الحفاظ على السلام الدولي، السلام الذي يوفر للشعوب التقدم الإجتماعي، السلام الذي يتوفر من خلال احترام حقوق الشعوب واسقلالها. ومع صعوبة المهمة فقد قال في هذا الأمر:
" لم تتكون الجمعية العامة للأمم المتحدة لتحملنا إلى الجنة، وإنما من أجل أن تنقذنا من جهنم."
حاول همرشولد بحياديته إرضاء الجميع، المهمة التي تعتبر مستحيلة في عالم يتخبط في القوة واستغلال الشعوب واستعمارها. فعمل مثلا، بعد الحرب الكورية، على تحرير السجناء الأمريكيين من خلال التفاوض بدبلوماسيته الصامته المباشرة مع رئيس الوزراء الصيني شوإن لاي. لكنه فشل في ضبط الأمور في ثورة الطلاب في المجر في منتصف الخمسينات بسبب موقف السوفييت المؤيد للنظام في المجر واستخدامه حق النقض. ولم يستطع داج التوفيق بين لاووس وفيتنام الشمالية، أو حتى في الكونغو التي كانت آخر مهامه الدولية.
أما التغيرات الأساسية التي حققت في فترة رئاسة داج همرشولد، التي امتدت على فترتين من عام 1953 وأعيد انتخابه عام 1957، هو أن العديد من الشعوب قد حققت استقلالها بدعمه لها، في كل من إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا. وهذا ماكان يغضب الدول الإستعمارية التقليدية. فبعد أن كان عدد الأعضاء الأفارقة مثلا، في الجمعية العامة للأمم المتحدة، أربعة في عام 1953 أصبح عددهم 24 في نهاية عهده 1961. وقد تزايد عدد أعضاء الجمعية عموما، خلال خمس سنوات من توليه منصبه من 60 دولة إلى 90، كان جلها من الدول الصغيرة. وبهذا أصبحت الجمعية العامة للأمم المتحدة تشكل القوة الثالثة، إبان الحرب الباردة بين الكتلتين الشرقية والغربية.
هذا وقد أنشا هموشولد القوة العسكرية للأمم المتحدة " قوات حفظ السلام" وعدد آخر من التنظيمات التابعة للأمم المتحدة، مثل المنظمة العالمية للطاقة التي تشكلت في عام 1957 لتكون مسائل الأسلحة النووية من إختصاص الجمعية العامة.
همرشولد والعالم العربي
غزة ومصر عام
استطاع همرشولد، خلال علاقاته الطيبة مع كل من رئيس مصر جمال عبد الناصر من جهة ومع رئيس وزراء إسرائيل بن دافيد جوريون، تهدئة الأوضاع بين البلدين عام 1954. لكن الأمور تدهورت بين مصر والدول الإستعمارية الثلاث، إسرائيل وبريطانيا وفرنسا، الدول التي غضبت من عبد الناصر لتأميمه قطعة من بلاده، هي قناة السويس، وفرض الجمارك على السفن التي تعبر من بلاده، ومنع السفن الإسرائيلية من الإجتياز، فأرسلت قواتها لتدمير واحتلال قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء وقناة السويس. صدم هذا العدوان داج همرشولد؛ فكيف لدولتين مؤسستين للجمعية العامة للأمم المتحدة أن تشارك بعدوان على دولة عضو أيضا دون الأخذ بعين الإعتبار للجمعية. لقد كان همرشولد خصما عنيدا للدول الثلاث المعتدية وطالبها بالإنسحاب دون أية شروط. فبريطانيا مثلا اشترطت أن تأخذ نصيبها وتفرض سيطرتها على قناة السويس، باعتبارها من أملاكها القديمة. أما إسرائيل فطالبت بالحصول على مكاسب سياسية واقتصادية مقابل انسحابها من شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة الفلسطيني، كفتح أبواب اقناة أمام بواخرها، إضافة للتمركز في شرم الشيخ على شواطئ البحر الأحمر.
أُجبرت الدول الثلاث المعتدية على مصر من الإنسحاب من قناة السويس ومن شبه جزيرة سيناء ومن قطاع غزة. وأرسل همرشولد قوات الطوارئ الدولية إلى القطاع لتفصل بين القوات المصرية، التي كانت تدير القطاع، وبين الجيش الإسرائيلي. وارتفعت بذلك أسهم مصر عالميا ورئيسها جمال عبد الناصر بين الشعوب العربية والعالمية.
لقد أدى الإنتصار السياسي لمصر في حرب السويس إلى تشكيل طفرة قومية عربية كبيرة في منطقة الشرق الأوسط. فثورة العراق مثلا أطاحت بالملكية الفيصلية وبحلف بغداد، وأخافت الغرب من دخول السوفيات للمنطقة من باب واسع عن طريق الزعيم العراقي يومئذ عبد الكريم قاسم.. ثم دخلت سوريا بوحدة شاملة مع مصر تحت إسم الجمهورية العربية المتحدة، وفي الجزائر اشتد عود حركة المقاومة للتحرر من الإستعمار الفرنسي، والغليان بدأ في اليمن، والثورة الفلسطينية بدأت بوادرها. كل هذا أفزع الغرب بأكمله.
لبنان
أما في لبنان فقد ثار الشعب هناك لتحقيق العدالة واللحاق بالركب القومي مع تأييد واسع من جمال عبد الناصر. لم تكن الحكومة اللبناني راضية عن تلك التحركات، وكانت يومئذ على علاقة قوية مع دول الغرب وفي مقدمتها بريطانيا الولايات المتحدة الأمريكية التي طلب منها الدعم والمساعدة، عبر الرئيس الأمريكي أيزنهاور. وتم إرسال قوات طوارئ دولية إلى البلد بعد أن طالبت الأمم المتحدة من بريطانيا وأمريكا لسحب قواتها من لبنان.
تونس
وفي تونس كانت فرنسا تموضع قواتها العسكرية في بنزرت. وطالب الحبيب بورقيبة فرنسا بسحب جيشها من هناك. وعمل همرشولد على دعم هذا التوجه، في وقت رفضت فرنسا برئاسة شار ديجول من متابعة المفاوضات مع الأمين العام للأمم المتحدة. فقرر همرشولد منح الحق لتونس بمطالبة فرنسا بالإنسحاب من البلد، الأمر الذي فعلته فرنسا بعد فترة، لكنه أغضب فرنسا من همرشولد.
هذا وحاول همرشولد إزاء ذلك تحييد المنطقة عن الحرب الباردة. ولاحق بعدها القوى الإستعمارية في القارة الإفريقية. وهذا ربما أوجب التخلص من هذا الرجل قبل أن يستفحل أمره ومنعه على الأقل من تمديد فترته في رئاسة الجمعية العامة للمرة الثالثة.
فلسطين
عند تسلم داج همرشولد منصبه في الأمم المتحدة كان اليهود قد كسبوا في جعل مسألتهم، بعد الحرب العالمية الأولى، قانونية، من خلال فرض عصبة الأمم المتحدة – التي تم إنشاؤها على يد بعض الدول الإستعمارية يومئذ، وفي مقدمتها فرنسا وبريطانيا العظمى – على بريطانيا التي أخذت على عاتقها إنتداب فلسطين والأردن والعراق، وتطبيق وعد بلفور بخلق وطن قومي لليهود في فلسطين. ثم تشكلت جمعية الأمم المتحدة، بدلا عن العصبة، في عام 1945، لتقنن وجود دولة يهودية على جزء من أرض فلسطين. واعترفت الجمعية بحدود الهدنة في العام 1948 بين الدول المحيطة لفلسطين المحتلة ، سوريا ومصر ولبنان والأردن، وبين إسرائيل. في حين كان من الواجب على الأمم المتحدة سحب عضوية إسرائيل منها بسبب احتلالها أراض من فلسطين لم تكن مخصصة لها في قرار التقسيم رقم 181 الذي صدر في عام 1947هذا من جهة، ولايجوز الإعتراف بدولة لم تحدد حدودها الرسمية من جهة أخرى.
إذاً كانت إسرائيل، بالنسبة للأمين العام للأمم المتحدة واقعا قانونيا. لكن قراراً أمميا آخر، تحت رقم 194 يلزم إسرائيل بإعادة اللاجئين الفلسطينيين وتعويضهم ، وقرارا ثالثا بتشكيل وكالة دولية لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين" أونروا" بتمويل دولي، يدفع داج همرشولد لإيجاد حلول نابعة من قناعاته وأسلوبه في العمل وهو:
– حل النزاعات عن طريق المفاوضات السلمية، والإبتعاد كليا عن استخدام السلاح.
– الإلتزام بتطبيق فقرات القوانين الدولية.
– الإلتزام بالحيادية التامة.
– وأخير حل المسائل المتنازع عليها بالمال
وهذا ماجعل همرشولد شخصية غير محبوبة، حتى من أطراف متخاصمة. فقد اعتقد همرشولد مثلا أن القضية الفلسطينية برمتها هي قضية إنسانية فقط، وليست سياسية. واقترح في عام 1959 لإمكانية حلها عبر تنفيذ مشاريع تنموية إقتصادية يندمج من خلالها اللاجئين الفلسطينيين في أوطانهم الجديدة خلال عشر سنوات، أي توطينهم وعدم إعادتهم. ورأى بأن الدول العربية النفطية، والتي تنعم بفوائض مالية كبيرة، بحاجة إلى أيدي عاملة كثيرة، يمكنها أن تمنح اللاجئين الفلسطينيين جنسيات بلدانها، ليبدأوا فيها حياة جديدة. عند طرحه خطة الحل هذه أصبح داج همرشولد شخصية غير محببة لدى الشعوب العربية عامة ولدى الفلسطينون خاصة. فالفلسطيني – وأنا من بينهم – يرى بأن كنوز الأرض بكاملها لاتساوي بيته وأرضه. وأجاب مندوب الإونروا في الأردن يومئذ، على ماطرحه همرشولد بالقول: "إن مسألة اللاجئين الفلسطينين لهي حجر الزاوية في الصراع ضد إسرائيل، وستبقى العصاة التي سنضرب بها إسرائيل".
لقد أدرك داج همرشولد، من خلال معرفته بالصراعات الدولية، بصعوبة تطبيق القرار 194 ذاته، في إعادة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، فبتطبيقه يكون زوال لإسرائيل، في حين اعترفت الكتلتين البارزتين في الحرب الباردة بوجود إسرائيل. وأدرك أن الحكومات العربية لم تقو على مثل هكذا تطبيق، خاصة بعد ضم الأردن للضفة الغربية ووقوع غزة تحت الحكم المصري، الحكم الذي يعيش حالة بناء الذات بعد العدوان الثلاثي.
وكما تم ذكره أعلاه كان داج همرشولد على علاقة قوية بالفيلسوف اليهودي مارتين بوبر والسياسي دافيد بن غوريون. لكن النتائج التي فرضها الأمين العام للأمم المتحدة بعد حرب السويس جعل من همرشولد غير محبوب لدى ساسة إسرائيل. والمؤشرات على اعتباره خصما لإسرائيل تفيد بأن دافيد بن غوريون يعتبر همرشولد من أصعب الشخصيات للإقتناع أثناء الحوار معها. وتذكر المصادر بأن بن غوريون كان يعتبر همرشولد "عدوا لإسرائيل". وقد استند بن جوريون في استنتاجه هذا، إلى سؤال وجهه له همرشولد في عام 1956 نصه: "هل لازالت ترغب في تقسيم فلسطين؟". هذا وانتقلت هذه الخصومة من بن جوريون إلى زوجته باولا التي سألت ذات مرة داج همرشولد إثناء زيارته لإسرائيل بقولها: " لماذا لاتتزوج ياهمرشولد؟ فلو كنت متزوجاً الآن فإنك ستخصص وقتك لزوجتك وتتركنا وشأننا بسلام.!"
ومن المعروف بأن إسرائيل قد ماطلت في عملية انسحابها من قطاع غزة حتى تتمكن من فرض شروطها والحصول على امتيازات عسكرية واقتصادية لها. لكن إصرار همرشولد وتصميمه على تطبيق بنود ميثاق الأمم المتحدة باعتبار " قطاع غزة منطقة محتلة ويجب ان يعود إلى الإدارة المصرية". كما ثارت إسرائيل يومئذ على تسمية الحاكم العسكري المصري على غزة، فرد همرشولد على ذلك بالقول: "إن هذا حق قانوني لمصر ولايمكن تفادي تطبيقه".
وفي محاولته لتهدئة الخواطر فقد قام همرشولد بعدة زيارات للمنطقة في عام 1957. وكان يتحدث عن تلك الزيارات إلى معاونيه. وقال ذات مرة واصفا دافيد بن جوريون أثناء زيارته له في كيبوتس سدي بوكر في النقب: " إنه مجنون مجنون مطلق، إنه مجنون موهوب موهوب" ويضيف همرشولد " لقد قدم دافيد بن جوريون لي شخصية أحد أعضاء الكيبوتس واصفا إياه؛ هذا إرهابي حقيقي. فسألته: هل كان هذا المجرم أحد أعضاء منظمة شتيرن؟ – وهي أحد المنظمات التي شاركت في قتل الأمير السويدي فولكه برنادوت، أثناء اداء مهمته كوسيط دولي في حرب فلسطين، بين العرب وإسرائيل، عام 1948، في مدينة القدس." وفي هذا السياق فقد طالب داج همرشولد مرار القيادات الصهيونية بتقديم الأدلة، حول إدعاءاتهم، التي الصقوها بفولكه برنادوت على أنه كان معاديا لليهود، وأنه كان معاديا أيضا للدولة اليهودية التي قامت على أرض فلسطين. لقد ألصق دافيد بن جوريون نفس التهم إلى داج همرشولد وذلك في الصفحة 128 من كتابه " حياتي وبلدي" بوصف همرشولد بالقول: " لقد اتخذ الأمين العام للأمم المتحدة موقفا معاديا لإسرائيل، بدرجة لم يتخذها أبدا ضد أحد من الدول العربية."
أما جولد مائير كانت قد أوردت في مذكراتها عن، داج همرشولد، الرجل الذي مات في أدغال الغابات الإفريقية بقولها:
" لم أعتبر همرشولد صديقا يوما ما، ولم أظهر له شعوري هذا. لقد كان الشخص حياديا وسلبياً في قضايا الشرق الأوسط. فإذا قال العرب مثلا لا لأي شيئ، فإنه يقول معهم لا.".
لم يكن داج همرشولد بعيدا عن معرفة مايجري على الأرض على خطوط الهدنة مع سوريا، وذلك من خلال التقارير التي كان يُزوّد بها من قبل قائد قوات الطوارئ الدوليه في المنطقة الجنرال السويدي كارل فون هورن. لقد أوضحت تلك التقارير كيفية الإعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الضفة الشرقية من بحيرة طبريا، التي كانت تتبع لسوريا. وقام فون هورن بجمع تقاريره على شكل كتاب تحت عنوان "جنود السلام". ويذكر الجنرال السويدي في صفحة كتابه 129 كيف أن إسرائيل قامت باغتيال الضابط السويدي هانسين وزعمت بأنه قد مات بحادثة سير . مع العلم بأن الإسرائيليين قاموا بتهديده عدة مرات. ويذكر الجنرال فون هورن كيف أن تم تهديده هو أيضا من قبل الإسرائيليين بعد أن شوهوا سمعته وصورته في الصحافة الإسرائيلية والدولية بزعمهم بأنه رجل نازي. ومن المفيد ذكره هنا بأن كارل فون هورن كان احد الذين أنقذوا العديد من اليهود من براثن النازية في أوربا. تماما كما فعل الأمير فولك برنادوت. يتابع الجنرال حديثه في الصفحة 310 من كتابه عن كيفية تسلمه رسالة تهديد، تم فيها أولا تعداد جرائمه التي اقترفها، حسب زعمهم، ليتم نصيحته بعدها بمغادرة البلد طوعا، وإلاّ فإنه سيغادرها في نعش. ويضيف واصفاً : "مع أنني تذكرت جيدا ماقد حصل مع فولكه برنادوت وللضابط هانسين، إلاّ أنني نمت جيدا تلك الليلة.". وفي حقيقة القول فإن الجنرال كارل فون هورن يُوصَف في السويد على أنه شخصية عسكرية قوية ولاتهاب الموت.
وفي الصفحة 291 من كتابه يذكر فون هورن كيف غادره الضابط الإسرائيلي" ميكائيل كومي" الذي هدده لتوه، بالعدول على إرسال زورق للمرقبة الدائمة في بحيرة طبريا يرصد تحركات الإسرائيليين، واعتداءاتهم المتكررة على سوريا، وإزاحاتهم المستمرة للأسلاك الشائكة شرق البحيرة لتوسيع أراضي دولتهم. ويفيد الجنرال بالقول: " بعد أن رأيته يختفي، كان من الصعب عليَّ نسيان كلمات داج همرشولد التحذيرية لي، هنا وفي هذا المبنى بقوله؛ تذكر دائما بأنك مهما فعلت خيرا، فلن تحصل على قلب الإسرائيليين الصريح.".
"مقتل" داج همرشولد
فمن المؤكد إذاً أن داج همرشولد قد علم باغتيال الضابط السويدي هانسين، وبالتهديدات التي تعرض لها هو والجنرال كارل من قبل الإسرائيليين. وبهذا يمكن الربط وبشكل مباشر مابين هذه التهديدات وما قاله دافيد بن جوريون لداج همرشولد في كيبوتس سدي بوكر أثناء تقديمه له الشاب الإرهابي. وربما كانت العداوة والتهديدات الإسرائيلي هي وراء مقتل داج همرشولد الغامض، أثناء تفجر طائرته فوق أدغال افريقيا في السابع عشر من أيلول/ سبتمبر عام 1961. التأريخ الذي تم فيه إغتيال فولك برنادوت في القدس قبل 13 سنة، أي في عام 1948.
لازالت، وحتى كتابة هذه السطور، أي بعد مرور مايقارب 52 عاما، لم يُعرف من هو القاتل الحقيقي للأمين العام للأمم المتحدة. فهل الطائرة تحطمت بسبب خطأ فني. أم أنه قتل بسبب مواقفه الدولية. فهناك عدة نظريات، من بينها طبعا أن إسرائيل قد قامت بقتله، حسب عادتها في قتل خصومها مثل برنادوت سابقا إلى ياسر عرفات لاحقا، وما مر بينها من شخصيات عربية ودولية.
هذا ويطرح الموقع الإلكتروني"فلاش باك" السويدي سؤالا على الجمهور في هذه الموضوع نصه: " هل قُتل داج همرشلد من قبل اليهود؟ هل قتل اليهود فولكه برنادوت فقط أم أنهم قتلوا داج همرشولد أيضا؟ ويحاول صاحب السؤال بالإجتهاد بقوله: إن النظريات التي تقول بأن الولايات المتحدة الأمريكية، أو جنوب أفريقيا، أو بلجيكا أو أية دولة أخرى تقف وراء مقتله يمكن أن تكون بعيدة، إلا أن المؤشر الأكبر يتجه نحو إسرائيل والموساد بالتعاون مع اليهود ملاّك المناجم وتجار الألماس، الذين يستغلون ثروات القارة الإفريقية، هم وراء مقتل داج همرشولد. فالمنطقة التي كان همرشولد متوجها إليها بطائرته، روديسيا، كانت محكومة من قبل رئيس وزراء يهودي يدعى روي فيلينسكي، وهو الذي كان يحتفظ بعدد من صور داج همرشولد الشخصية.
لكن كاتب روسي، ودبلوماسي سابق، فيكتور ليخيوفسكي فيذكر في هذا الصدد – في كتابه الذي صدر عام 1986 تحت عنوان "اللغز حول مقتل داج همرشولد" وترجم للسويدية عام 1988 لأهمية موضوعه – "بأن المخطط لقتل همرشولد قد تم في لندن، أما التنفيذ فقد حصل في روديسيا. البلد التي كان يحكمها العنصريون البيض. وكانت روديسيا يومها تتبع للفلك البريطاني". بريطانيا الشريك الأكبر لإسرائيل في العدوان الثلاثي على مصر. ويتابع ليخيوفسكي قوله:" لقد اخفيت كل الوثائق المتعلقة بحطام الطائرة بسبب موقف داج همرشولد من الكونغو ومن مقتل (زعيم اللوبي الثوري باتريس) لومومبا آنذاك، الأمر الذي أزعج بريطانيا وبلجيكا، حيث هدد داج استمرار سيطرة هاتين الدولتين على مناطق مناجم الثروات الباطنية هناك.
إذاً؛ كانت فرنسا بسبب موقفها من تونس ومن مشاركتها بالعدوان الثلاثي، وكانت بريطانيا بسبب حربها في السويس وبسبب مواقفها في أفريقيا تجاه حركات التحرر هناك، وكانت أمريكا بسبب موقفها من التغيرات داخل مبنى الجمعية العامة، ومن لبنان، وإسرائيل بسبب حربها في السويس واغتيالها الضابط السويدي وتهديدها للجنرال السويدي كارل فون هورن، وكذلك بلجيكا بسبب استعمارها لمناطق افريقية، وجنوب أفريقيا ذات النظام العنصري صاحبة خصومة مع الأمين العام للأمم المتحدة الذي ساعد حركات التحرر والشعوب الصغيرة بالإستقلال تشكل أسبابا لتوجيه التهمة إليها بقتل همرشولد.
وللعلم لازالت شخصيات سويدية كبير تطالب بفتح الملفات والتحقيق بالحادثة لمعرفة ملابساته، وكان آخرها طلب الرئيس السابق لأساقفة الكنيسة السويدية الرسمية السيد كو جيه همّر في تصريح صحافي تناولته وسائل الإعلام بتاريخ 29 كانون الثاني/ يناير من عام 2012 ويقول فيه: " إني على قناعة تامة بأن داج همرشولد قد مات مقتولا وعلى الحكومة السويدية ان تشكل لجنة تحقيق بهذا الغرض" ويضيف بأنه أثناء تواجده في زامبيا لإلقائه محاضرات التقى بشهود كانوا قد رؤا الطائرة وهي تُقصف وتحترق وتتهاوى.
ومن الجدير ذكره بأن داج همرشولد قد حصل على جائزة نوبل للسلام بعد "مقتله" في عام 1961 لأنه دفع حياته من أجل السلام، ومساندة حركات التحرر في العالم.
تعقيب
لم تكن شخصية داج همرشولد هي السويدية الوحيدة التي ماتت او بالأحرى قتلت بظروف غامضة. فبرنادوت تم الإعتراف بقتله بعد عقود طويلة تزيد عن الأربعة. وقتل رئيس الوزراء السويدي أولوف بالمه في وسط العاصمة السويدية بعدة عيارات نارية في 28 شباط/ فبراير من عام 1986 ولم يعرف غريمه حتى اليوم. واغتيلت وزيرة الخارجية السويدية المعروفة أنّا ليند من قبل شخص قيل انه "معتوه". وأخيراً قتل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات تحت ظروف غامضة في رام الله بفلسطين. وهذه أمثلة قليلة جمع فيما بينها صفة الخصومة لإسرائيل. وكما هو معروف قامت إسرائيل باغتيال شخصيات فلسطينية عديدة تواجدت في أماكن متنوعة في العالم مثل أبو جهاد الوزير الذي اغتيل في بيته وسط العاصمة التونسية، وأبو علي مصطفى والشيخ أحمد ياسين وغيرهم كثر.
ومن المفيد في الختام محاولة فهم مشروع همرشولد لتوطين اللاجئين الفلسطينيين، وليس الدفاع عنه. فهمرشولد لم يكن متفائلا في توفر الإمكانيات لتحقيق قرارات الأمم المتحدة وتطبيقها على إسرائيل وخاصة القرارين 181 لعام 1947 الداعي لتقسيم فلسطين و 194 لعام 1948 الذي يطالب بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وممتلكاتهم، خاصة وقد تم طرح سابقا عدد من المشاريع التي رفضتها إسرائيل ومن ورائها، مما دفع همرشولد للتفكير بموضوع التعويض الذي طرحه الرئيس الأمريكي آيزنهاور.
إن خبرة همرشولد التي اكتسبها، من خلال وساطاته وتفاوضاته مابين غرب أوربا وأمريكا في تطبيق مشروع مارشال لإعادة إعمار أوربا بعد خروجها محطمة من الحرب العالمية الثانية، جعلته يقتنع بأن كل نزاع دولي يمكن حله بنفس طريقة مشروع مارشال أي بالمال. لذا فمن المعتقد بأن الرجل أراد حل القضية الفلسطينية على أساس إنساني، وليس على أساس سياسي يضمن الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، كما يراها الفلسطينيون العرب أنفسهم.
وبالطبع كان من حق الفلسطينيين أن يفهموا من أن المشروع يهدف غلى توطينهم في المجتمعات العربية المتواجدين في ظهرانيها. وكان ردهم يليق بالمشروع من خلال اجتماع فلسطيني موسع عقد في العاصمة اللبنانية بيروت بتاريخ 26 حزيران/يونيو من عام 1959 رفضوا فيه المشروع جملة وتفصيلا، ونددوا بمنطق همرشولد، إلا أنهم لم يهددوا حياته أو حياة معاونيه على الإطلاق. ولم يكن لديهم في تلك الأيام اليد الطولى في افريقيا أو في التسلح لقصف طائرة فوق سماء افريقيا. ومنذ ذلك التاريخ اعتبر داج همرشولد "أبو التوطين". ولم تكن هناك دراسة عربية متخصصة ووافية لخلفيات ما طرحه همرشولد على المستويين الشخصي والدولي. ولم يعر أحد أي اهتمام لمعرفة ماإذا كان العدو الصهيوني، الذي نفذ سابقا عمليات إعدامات لشخصيات دولية وعربية وفلسطينية تحت ظروف غامضة، قد وضع همرشولد على لائحته السوداء.
رشيد الحجة كاتب وصحفي مقيم في السويد
مراجع سويدية:
-كتاب " داج همرشولد" للمؤلف جوزيف بي لارش. صدر في ستوكهولم عام 1961
-كتاب "داج همرشولد" للكاتب ستين سودرباري صدر في ستوكهولم عام 1962 مع عدد من الصور
-كتاب "جنود السلام" للجنرال كارل فون هورن. صدر في ستوكهولم عام 1966
-كتاب " إسرائيل؛ حياتي وبلدي" لمؤلفه دافيد بن جوريون (طبعة سويدية( عام 1964
-صحيفة داجنيزنيهيتر من يوم 22/ 9 / 1988
-صحيفة أفتون بلاديت من يوم 4 / 1 / 1987
مراجع عربية:
-كتاب ملفات السويس للكاتب محمد حسنين هيكل صدر في القاهرة في عام 1986
-مجلة شؤون فلسطينية العدد 22 الصادر في بيروت في شهر حزيران/يونيه عام 1973
-الموسوعة الفلسطينية، الجزء الرابع الثادر في دمشق من عام 1984
-مجلة فلسطين الثورة في عدديها 903 و904 الصادران في 16 و 25 من شهر آب/أغسطس من عام 1992